من الأردن إلى مخيم الركبان: القذف إلى مصائر مجهولة بينها الموت

من داخل مخيم الركبان

قبل سنوات، لم يكن ما يُعرف اليوم بـ«مخيم الركبان» أكثرَ من بقعةٍ جرداء قاحلة وسط البادية، تحولت بدايةً لتكون نقطة عبورٍ إلى الأردن، ومن ثم صارت مخيماً يغلب الشقاء والبؤس على تفاصيل الحياة فيه، يقطنه نازحون مُحاصرون فقدوا أملهم في العبور نحو الأردن، وهو الهدف الذي جاء بهم أصلاً إلى هذا المكان المنقطع والمحروم من أبسط تفاصيل العيش الكريم.

ولكنّ أمل العبور نحو الأردن لم يتبدّد عند قاطني المخيم حتى صار كابوساً يؤرّق بعض اللاجئين السوريين الذين سبق أن وصلوا بالفعل إلى الأردن؛ إذ بات مخيم الركبان الوجهةَ الرئيسية التي تُرحّل السلطاتُ الأردنية نحوها السوريين الذين تُقرِّر طردهم من أراضيها، حيث يُطلق نازحو المخيم على هؤلاء المُرحلين إليهم من الأردن وصف «المقذوفين».

لعلّ هذه التسمية البسيطة والمباشرة تحمل في مضامينها إشاراتٍ عميقة الدلالات، إذ تُجمع الروايات التي حصلت عليها شبكة الركبان على التأكيد بأنّ عمليات الترحيل لا تتوافق مع المعايير الإنسانية، وتفتقد إلى المسوغات القانونية، كما لا تخلو مصائر المُرحلين من احتمالية الموت، لا سيما عندما يُضطر البعض منهم، مدفوعين باليأس، إلى مغادرة المخيم باتجاه مناطق سيطرة نظام الأسد، ليتقرّر حينها مصيرهم، الذي قد يتحول من موتٍ بطيءٍ في المخيم كما يصف الأهالي حياتهم، إلى موتٍ سريع على الحواجز أو في أقبية أجهزة المخابرات. هذا ما يجعل عمليات الترحيل قذفاً حقيقياً نحو المجهول الذي لا يتضمن أيّ شكلٍ من أشكال النجاة في احتمالاته.

شرعت السلطات الأردنية في اعتبار مخيم الركبان الوجهة التي تقذف إليها المُرحلين بالتزامن مع إعلان قوات النظام بسط سيطرتها على معبر نصيب الحدودي في محافظة درعا منتصف العام 2018، وكانت أولى العوائل المقذوفة تنحدر من مدينة تدمر في الثامن عشر من أيار (مايو) من العام 2019، ليتواتر بعدها ترحيل العائلات بشكلٍ شهري، حتى وصل عددها لحظة إعداد هذا التقرير إلى 30 عائلة.

محمد هو اسمٌ مستعار لأحد المنشقين عن قوات النظام السوري، ينحدر من مدينة حمص ولجأ إلى الأردن عام 2013 برفقة عائلته، وذلك «بحثاً عن مكانٍ آمنٍ له ولزوجته» بحسب ما يقوله. تحدّث محمد عن ظروف لجوئه في الأردن قائلاً: «كنت أتدبّر قوت يومي من خلال العمل في ورشة دهان، ولكن فجأةً، ومن دون إنذارٍ مسبق، أُلقت السطات الأردنية القبضَ علي، لأخضع للتحقيق لثلاثة أيام، بتهمة التواصل مع أحد أقاربي المقيمين في سوريا (في إدلب تحديداً)، إذ رأت السلطات أنّ هذا تواصلٌ مع أحد الإرهابيين، وذلك من دون تقديم أي دليلٍ يتعدّى الاتهامات المُرسلة».

ويصف محمد وقع الكلمات التي أخُبر بها بقرار ترحيله إلى سوريا بـ«الصاعقة»، مضيفاً بأنّ «مئات الأسئلة تقافزت حينها في رأسي: لماذا! وكيف، وإلى أين! لكني لم أحصل على إجابات، ووجدت نفسي مُضطراً للانقياد واتباع التعليمات». ويرى محمد أنّ قرار السلطات الأردنية بترحيله «كان جاهزاً منذ اللحظة التي أُلقي القبض عليه فيها».

ويروي محمد لشبكة حصار تفاصيل رحلة القذف بالقول: «جرى اقتيادنا إلى قريةٍ اسمها ‘رويشد’، تبعد مسافة ١٥ كيلومتراً عن الحدود السورية الأردنية، وهي على ما يبدو نقطة تجميع اللاجئين السوريين المُراد ترحيلهم، لتبدأ بعد ذلك رحلةٌ لمسافة ١٠٠ كيلومتر للوصول إلى مخيم الركبان».

صورة لأحد شوارع مخيم الركبان
صورة لأحد شوارع مخيم الركبان

ويشير محمد إلى أنّ السلطات الأردنية «تنسّق عمليات القذف مع فصيلٍ محلي في المخيم، يتكفل باستلامنا فور عبورنا الحدود»، واصفاً الأمتار القليلة التي صار فيها تسليمهم من قبضة السلطات الأردنية إلى قبضة الفصيل المحلي بأنهّا «أصعب ما عاشه منذ عشر سنواتٍ واجهَ فيها الكثير من المخاطر والمتاعب، إذ أنّ الوصول إلى الركبان عنى جفاف الأمل الذي تعكّزت عليه طوال إقامتي في الأردن، فلا حياة في الركبان ولا شيء بعده».

ويختم محمد حديثه باعتبار «جميع اللاجئين السوريين في الأردن مُعرّضين للطرد والترحيل، دون أن تحتاج السلطات الأردنية إلى أسباب وجيهة للقيام بذلك. مشكلة صغيرة أو مجرد الشك بأحد السوريين أسبابٌ كافية لاتخاذ قرار الترحيل».

معاناة مضاعفة

تشكلت مسارات النزوح وإقامة المخيمات في سوريا تحت وطأة عاملين: الأول هو الجغرافية والثاني هو طرق الوصول الآمنة. وعليه، فإنّ مخيم الركبان كان وجهة السوريين من مناطق ريف حمص وتدمر وعموم البادية وصولاً إلى المنطقة الشرقية من سوريا، وهو ما انعكس على تركيبة المخيم الذي تحول مع الزمن إلى مدينةٍ مصغّرة، سُميت أحياؤها نسبةً للمناطق التي جاء النازحون منها، كحي التدامرة على سبيل المثال. هذا التقسيم يجعل من ترحيل السوريين من أبناء محافظات الشمال والوسط والجنوب إلى المخيم معاناةً مضاعفةً، فهم غرباء وبعيدون عن حواضنهم الأهلية والاجتماعية داخل بلادهم.

أبو محمد رجلٌ خمسيني من مدينة الرقة، جرى ترحيله مع عائلته من الأردن إلى مخيم الركبان، بعد أن كان يعمل هناك في إحدى المزارع بمحافظة إربد، وذلك بتهمة «تمويل الإرهاب». يقول الرجل إنّ هذه التهمة «تُضحكه وتبكيه»، فالسلطات الأردنية وجهته له لأنّه «كان يذهب شهرياً لاستلام حوالة من مكتب حوالات مُعلن ومعروف، والمبلغ ١٠٠ دينار أردني فقط». ويضيف أبو محمد: «المفارقة أني كنت أفعل ذلك خدمةً لجارتي المُسنّة التي كان يُعيلها ابنها اللاجئ في ألمانيا».

سوق مخيم الركبان

آسف، لكنهم يعاملون كالأغنام

التقت شبكة حصار أبو حسين، وهو مسؤول استلام اللاجئين القادمين من الأردن. يقول أبو حسين: «تخيّر السلطات الأردنية من تريد ترحيلهم بين وجهتين، إما إلى المخيم أو إلى درعا، حيث يسيطر النظام السوري. وكان أبو حسين قد أحصى 30 عائلةً جرى ترحيلها من الأردن إلى الركبان بين عامي 2019 و 2020، بعدد أفراد إجمالي وصل إلى 70 شخصاً، نصفهم من محافظة درعا، والنصف الآخر من حمص ودمشق وريفها والرقة.

ويصف أبو حسين حال المُرحلين بأنهم يصلون وكأنهم «أغنام»، ليعود فيتعذر عن هذا الوصف. معتبراً أن قرار ترحيلهم «يفتقد لأدنى متطلبات الترحيل الإنسانية، ومعظمهم يصلون منهكين من التعب، وتملأ وجوههم وثيابهم الغبار، والأمور تكون أكثر قسوةً على الأطفال والنساء».

أما عن طبيعة دوره في عملية القذف فيقول: «أقوم باستلام المُرحلين من نقطةٍ تقع على الساتر الحدودي الأردني، والذي يبعد مسافة ٤ كيلو متراتٍ عن المخيم، ونعمل عند ذلك على تزويدهم بالاحتياجات الأساسية والمستعجلة، ونعمل على تأمين استضافة لمن ليس لديهم معارف أو أقارب داخل المخيم». ويرى أبو حسين أن ترحيل السوريين إلى مخيم الركبان «يكاد يكون حكماً بالإعدام؛ لأنّ النازحين هنا بالكاد يتدبرون معيشتهم في ظل الظروف القاسية والطقس الذي لا يرحم، فضلاً عن شح الخدمات الأساسية وانعدامها في بعض الأحيان، وخصوصاً في ما يتعلق بالحاجات الطبية».

محمد عمر