المرض ممنوع بقرار أممي أردني سوري

نُشر في الجمهورية نت | المرض ممنوع بقرار أممي أردني سوري

هذا النص هو النص الثاني في سلسلة من أربعة تقارير معمقة عن مخيم الركبان، أعده مراسلو شبكة الركبان وهم: مريم الفيصل وفاطمة الأسعد وعماد غالي ومحمد عمر، بإشراف وتحرير مصطفى أبو شمس.

نقطتان طبيتان من الطين بدون أطباء

بعد ولادة طبيعية، أطلقت الطفلة نور صراخها الأول في صحراء مخيم الركبان على الحدود السورية الأردنية. كان ذلك في نيسان (أبريل) من العام 2019، حيث أطبق الحصار على المكان من قبل قوات النظام وروسيا، وأُغلقت الحدود الأردنية، وبات الحصول على علبة حليب أو دواء أمراً بالغ الصعوبة، مع انعدام المساعدات الإنسانية والمنظمات الداعمة وشح المواد التموينية وارتفاع أسعارها، يرافق ذلك كله خدمات طبية هشة زاد من سوئها مناخ صحراوي قاسٍ وعواصف غبارية وندرة في المياه.

الجفاف والتهاب الأمعاء كانا رفيق الصغيرة نور مع خطواتها الأولى، ومع غياب المشافي والمراكز الطبية والأطباء بشكل تام، لم يكن متاحاً سوى حلول إسعافية عاجزة، أو ترك المكان إلى غير رجعة نحو مناطق سيطرة النظام التي تحاصر المكان منذ ما يزيد عن سنتين.

فقر دم شديد، وأكياس مائية على الرحم تستدعي جراحة عاجلة، هو ما كانت تعاني منه آخر السيدات اللاتي غادرنَ مخيم الركبان بهدف العلاج في مناطق سيطرة النظام، وذلك منذ نحو عشرة أيام. ودّعت السيدة غرفتها الطينية وابنتها في المخيم، وخرجت وحيدة.

أحصى فريق العمل خروج نحو سبعين مريضاً من مخيم الركبان للعلاج في مناطق سيطرة النظام، وذلك منذ إغلاق النقطة الطبية على الحدود الأردنية في آذار (مارس) 2020 حتى لحظة إعداد هذا التقرير، ووُثِّق موت خمسة مرضى معظمهم من الأطفال في الطريق، وقبل وصولهم إلى المشفى لتلقي العلاج، إضافة لطفلتين توفيتا داخل المشفى لتفاقم حالتهما المرضية.

أُسعفت الطفلة نور قبل ذهابها إلى مناطق سيطرة النظام إلى نقطة شام الطبية. تقول والدتها إن الممرّض الموجود في النقطة حاول ما بوسعه لعلاجها بعد تشخيص مرضها: «علّق لها محلولاً وقام بإعطائها الصادات الحيوية ومضادات الإقياء ومحلول الفلاجيل لالتهاب الأمعاء». وضع لها خطة علاجية لمدة عشرة أيام، لكن تحسُّنها كان بطيئاً. كانت نور تذوي ببطء.

في المخيم نقطتان طبيتان، إحداهما نقطة شام الطبية التابعة لـ«جيش مغاوير الثورة». يقول مدير النقطة إن قوام شام الطبية ثلاثة عشر شخصاً، ثلاث قابلات وستة ممرضين يحملون شهادة التمريض، وأربعة متدربين.

نقطة شام الطبية في مخيم الركبان
نقطة شام الطبية في مخيم الركبان

تعمل النقطة على مدار الساعة، وتحتوي على «عدة جراحية بسيطة: جهاز أكسجين، جهاز إرذاذ، مونيتور للمراقبة القلبية مع صادم، جهاز سحب مفرزات، جهاز إيكو»، إضافة إلى صيدلية. تقدم النقطة الخدمات للمراجعين مجاناً، ويتقاضى الكادر راتبه من «التحالف الدولي وجيش مغاوير الثورة»، بحسب مدير النقطة، الذي أكد أنهم «يقدمون الإسعافات الأولية فقط»، ويستقبلون حالات «الإسهال والتهاب الأمعاء والكسور والجروح» ضمن قدرة كوادرهم، إضافة للولادات والمعاينات النسائية.

يخبرنا مدير النقطة: «قبل إغلاق النقطة الطبية على الحدود الأردنية في آذار 2020، كنا نحول المرضى إليها، ومنها كانت تحول الحالات الساخنة إلى المشافي الأردنية، أما اليوم فليس هناك سوى طريق واحد، إلى مناطق النظام».

شكري الشهاب، مدير النقطة الطبية الثانية في المخيم، التي يطلق عليها اسم «نقطة تدمر الطبية»، يقول إنه «افتتح العيادة في أيار (مايو) من العام 2016. كانت خيمة، قبل أن تتحول إلى بناء طيني من ست غرف».

مثبّتة بمسامير، تطالعك لافتة النقطة القماشية على الجدران الطينية المثقبة بفعل الرياح. اللافتة الأخرى فقدت نصف مساميرها بفعل الرياح أيضاً. الخط المكتوب على اللافتة يتحدث عن «مراقبة الحمل، توليد طبيعي، أمراض داخلية أطفال». الباب الخشبي المغبر أيضاً ثُبِّت بخيط في أعلى السقف ليبقى مفتوحاً.

في داخل الغرف أسرّة حديدية وطاولات من الطين وضعت عليها بعض الأجهزة الطبية القليلة، الأرض مُدَّت بسجادة، وفي طرفها «سْفنجة» للجلوس على الأرض، وفي الزاوية بطاريات وجهاز لضمان وجود الضوء.

تضم نقطة تدمر في كادرها ممرضاً وقابلتين وأربع متدربات، ولا تتلقى دعماً من أي جهة، بل تقدم خدماتها بأجور رمزية لتبقى هي أيضاً على «قيد الحياة». وهي تُقدِّم «رعاية الحوامل والتوليد الطبيعي، ومساعدة مرضى السكر والضغط، إضافة للإسعافات الأولية». يقول شهاب: «كل ذلك يتم ضمن قدرتنا. نحن نقوم بعمل مشفى مصغَّر. نستقبل جميع الحالات ونحاول مساعدتها».

في النقطة «جهاز إيكو وجهاز إرذاذ وبعض المعدات الجراحية البسيطة، إضافة لصيدلية». يقول شهاب أنهم يتقاضون مبالغ رمزية على ما يقدمونه من خدمات «الولادة الطبيعة بنحو دولار ونصف الدولار، أما الإيكو فبربع دولار»، وتُباع الأدوية بمرابح بسيطة بعد شرائها من مناطق النظام عبر طرق التهريب.

جهاز الإرذاذ في نقطة تدمر الطبية
جهاز الإرذاذ في نقطة تدمر الطبية

يخبرنا شهاب أن هذه المبالغ الرمزية يتم تقاسمها مع الكادر الطبي في النقطة، وأنهم يتغاضون عن الأشخاص الذين لا يملكون المال، كذلك لا يتقاضون أي مبالغ مالية بما يخص المعاينات أو إعطاء الحقن أو جلسات الرذاذ.

ليس في المخيم أي أطباء أو دارسي طب، وليس هناك مراكز لإجراء الفحوصات المخبرية، ولا أي نوع من التصوير الشعاعي. ليس هناك شيء: صحراء وحصار وأشخاص يعيشون مأساتهم وحيدين في القرن الحادي والعشرين، أطفال يعانون سوء التغذية وفقدان العلاج، مرضى مزمنون دون أدوية أو علاج، مرضى سرطان والتهاب كبد يتألمون وحدهم دون مساعدة من أحد.

النقاط الطبية في مخيم الركبان تنقصها معظم الأجهزة التي يمكن أن تساعد في إنقاذ حياة ما يزيد عن عشرة آلاف ساكن محاصر، لكن أهمها من وجهة نظر شهاب هي: مولدة أكسجين لحديثي الولادة، أجهزة سحب المفرزات، جهاز لسمع دقات قلب الجنين، جهاز مخثر كهربائي لإكمال مشروع الجراحة — الذي فعلوه مرة واحدة منذ أشهر في ظروف أقرب إلى الخيال!

نقطة تدمر الطبية في مخيم الركبان

طريق وحيد دون عودة

منذ أربعة أشهر، أجرت القابلة حسنة المطلق رفقة كادر نقطة تدمر الطبية أول عملية قيصرية لمدرّسة موسيقا في المخيم. المكان كان سيارة إسعاف، والإشراف الطبي كان عبر تطبيق زووم. كان يمكن لمضاعفات أو تداخلات ما أن تُفقِد المريضة حياتها، ماذا لو توقف الإنترنت! الأمر يستحق المغامرة، تقول المدرسة نور إبراهيم، فالطريق إلى مناطق النظام تذكرة ذهاب دون عودة إلى المخيم، حيث زوجها وطفلتاها.

قبل أن نتحدث عن وصول سكان المخيم إلى طريق مسدود، ومحاولة النظام فرض نفسه كجهة وحيدة لسكانه الهاربين في الأصل من قواته، يجب أن نسلسل ما حصل مع تحميل المسؤولية عن موت واعتقال العشرات من سكّان المخيم لأصحابها.

منذ حصار مخيم الركبان خريف 2018، كان المركز الطبي الذي تديره اليونيسف على الحدود الأردنية يقدم الخدمات العلاجية المرضى. هناك كان يتواجد عدد من الأطباء والأجهزة التي وصفها من تحدثنا معهم بالجيدة، فيما كانت الحالات الحرجة — كالولادات القيصرية والعمليات الجراحية — تُنقَل إلى المشافي الأردنية.

في بداية أيلول (سبتمبر) 2018، أُغلِقت النقطة الطبية دون تفسير ليُعاد فتحها بعد أيام قليلة، وفي تشرين الثاني (نوفمبر) من العام ذاته زار فريق من الأمم المتحدة مخيم الركبان وقدم اللقاح لنحو خمسة آلاف طفل رفقة مسؤولين من وزارة الصحة السورية (النظام).

كانت المرة الأخيرة التي يزور المخيم أي وفد أممي، والوحيدة التي تلقّى فيها أطفال المخيم لقاحاً، رغم أن إحاطة منسق الإغاثة الطارئة مارك لوكوك في مجلس الأمن أبلغت الجميع أن «الزملاء عادوا مصدومين مما رأوه على الأرض، وأبلغوا عن مشاكل حماية خطيرة، زيادة انعدام الأمن الغذائي، وعدم وجود أطباء معتمدين».

وجاء في الإحاطة أن «سكان المخيم مرعوبون مما يحمله المستقبل لهم، هم خائفون من العودة إلى منازلهم التي يرغبون في الوقت ذاته بالعودة إليها».

وفي الوقت الذي كان فيه مجلس الأمن يستمع للإحاطة، كانت السيدة فايزة أحمد الشليل تلفظ أنفاسها الأخيرة في المخيم دون أن يسمح لها بالدخول إلى الأردن للعلاج من تضخم أسفل الكبد.

صيدلية الإسعافات الأولية في نقطة شام الطبية

في كانون الثاني (يناير) من العام 2019 قال خيرت كابالاري، المدير الإقليمي لليونيسف في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إنه في مخيم الركبان «لا تزال حياة الأطفال تُختزَل نتيجة تعرُّضهم لظروف صحية يمكن تداركها بالوقاية أو بالعلاج»، وأضاف أن «عدداً أكبر من الأطفال سيموت يوماً بعد يوم في حال عدم توفر الرعاية الصحية».

منتصف آذار (مارس) 2020 أغلقت السلطات الأردنية المركز الطبي الذي تديره اليونيسف، بسبب فيروس كورونا. يقول أيمن الصفدي، وزير الخارجية الأردني، في تغريدة على تويتر: «أولويتنا صحة مواطنينا، نحن نحارب كورونا ولن نخاطر بالسماح بدخول أي شخص من المخيم، الركبان ليس مسؤولية أردنية، إمكانية تلبية احتياجاته من داخل سوريا متاحة».

تقول لين معلوف، مديرة البحوث للشرق الأوسط في منظمة العفو الدولية، إن للسلطات الأردنية كامل الحق في السعي لحماية سكان الأردن من الإصابة بكورونا، لكن يجب ألّا يتسبب هذا السعي بتعريض حياة الآخرين للخطر.

لم تفلح جميع المناشدات بإعادة المركز الطبي للعمل، رغم تراجع إجراءات الوقاية والحجر في الأردن. يقول رئيس المجلس المحلي في مخيم الركبان: «تم إبلاغ المكتب الأممي بوجود حالات طبية حرجة، ولم نحصل على استجابة». ويقول شكري شهاب «الأمم المتحدة لم ترد على مناشداتنا».

مراسلة مع النقطة الطبية التابعة للأمم المتحدة في الجانب الأردني

إلى حاجز النظام

عشرون يوماً أمضتها الطفلة نور دون استجابة للعلاج في النقطة الطبية. دفع والدُها ما يجنيه من عمله في نقل المياه لسكان المخيم ثمناً للأدوية. كان سعر الدواء مضاعفاً ككل شيء في المخيم، وبسبب انتمائه السابق للجيش الحر، وعدم السماح للخارجين من المخيم بالعودة إليه، كان يرفض إرسال طفلته إلى مناطق النظام، قبل أن تُغلَق آخر الطرق في وجهه.

أخبره الممرض بوجوب إرسالها. اتصل بأبو سعيد، المنسق مع الهلال الأحمر في المخيم، وحملها بسيارة الإسعاف إلى نقطة تسليم المرضى رفقة والدتها، وقفل راجعاً رفقة سائق الإسعاف أبو عمر.

يقول أبو سعيد إن العملية تتم بالتواصل مع مسؤولين في الهلال الأحمر السوري لقبول الحالة، وبضمان من منظمة الأمم المتحدة التي تقوم بمرافقة المريض إلى المشفى في دمشق، وتبقى مسؤولة عنه حتى خروجه من المشفى.

يخبرنا أن نحو سبعين حالة مرضية تم قبولها خلال العام الماضي، وأن خمسة أطفال ماتوا قبل وصولهم إلى المشفى.

يقدر سائق سيارة الإسعاف الوحيدة أبو عمر المسافة بين المخيم ونقطة التسليم بخمسة وستين كيلومتراً، يقول إنها طريق ترابية ما يزيد من معاناة المرضى ومن الوقت اللازم لإسعاف المريض، وأن نقطة التسليم تقع بعد حاجز جيش مغاوير الثورة وقبل حاجز قوات النظام بنحو كيلومترين تقريباً.

سيارة الإسعاف غير مجهَّزة بأي معدات إسعافية، وكانت في السابق مخصصة لنقل المرضى إلى المركز الطبي الأردني، وكانت منظمة «عالم أفضل» تتكفل براتب السائق والوقود، وبعد إغلاقها باتت مخصَّصة لنقل المرضى إلى نقطة التسليم، فقط تتكفل المنظمة بثمن الوقود.

يحتاج التواصل والموافقة على دخول الحالة الطبية إلى وقت لا يمتلكه المرضى الذين يحتاجون لنقل مباشر، وهو ما يزيد من مخاطر موت المرضى الذين يحتاجون إلى إسعاف بشكل عاجل، كحوادث السير والاحتشاء القلبي وحتى مرضى الزائدة!

سيارة الإسعاف الوحيدة في مخيم الركبان

نقطة التسليم

غفلت أم غصون عن طفلتها لدقائق وهي تجهّزها للاستحمام بعد أن سخّنت المياه على البابور، الأداة الأكثر استخداماً في المخيم للطهي وتسخين المياه. أرادت أن تحضّر لها الثياب، قبل أن تسمع صراخ طفلتها التي احترقت بالمياه المغلية.

تروي أم غصون وهي تبكي كيف اقتُلعت قطع من اللحم المحترق مع ثياب طفلتها. وصلت سيارة الإسعاف لتنقلنا إلى نقطة شام الطبية، أخبرنا الممرض أن الحرق كان بدرجة متقدمة ولا يستطيعون تقديم أي مساعدة، وأن عليهم نقلها إلى المشفى في مناطق النظام.

ساعات مرت قبل أن تجهز رحلة «اللاعودة»، ساعات أخرى مضت للوصول إلى نقطة التسليم، ومنها إلى مشفى المجتهد بدمشق، قبل أن تفارق الطفلة الحياة بعد أسبوع.

دُفنت غصون بعيدة عن عائلتها، وبقيت الأم الوحيدة في مناطق النظام، أما والد غصون فما زال يبحث عن طفلته بين أرجاء المنزل الطيني. جدّة غصون شتمت «المخيم والنظام والثورة والأردن والأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية»، وركنت لصوت ابنتها على الهاتف تخبرها أنها «ستشحذ لإعادتها إلى المخيم عبر طرق التهريب». كان صوت أم غصون، في الطرف المقابل، يختنق وهي ترد عليها: «سأبقى بجانب طفلتي».

سرير وجهاز إيكو في نقطة شام الطبية
سرير وجهاز إيكو في نقطة تدمر الطبية

تركت أم آية زوجها وطفلتها ذات الثلاث سنوات في المخيم، وتحضّرت للذهاب إلى مناطق النظام لإجراء عملية قيصرية بحسب القابلة التي أخبرتها بتعذر الولادة الطبيعية.

تروي أم آية أن الخوف سيطر عليها طيلة الأيام التي سبقت ذهابها، فهي لا تعرف ما الذي تخبّئه الأيام لها. استقلت سيارة الإسعاف على الطريق الترابي الذي زاد ألمها لكثرة اهتزازها. تقول: «وصلنا إلى نقطة تسمى المثلث، وهي نقطة تسليم المرضى، هناك استقبلنا أشخاص من الهلال الأحمر، قدموا لنا غذاء وأغطية، كان في النقطة ضباط وجنود من قوات النظام. نمنا ليلتنا في المكان، وفي اليوم التالي أُخِذتِ إلى مشفى في مدينة القطيفة لإجراء العملية القيصرية. يوم واحد أمضيته في المشفى لأُنقَل مجدداً إلى المثلث، هناك أشرف على حالتي ومن مثلي طبيب يتبع للهلال الأحمر وممرضين. وُضِعنا نحن في بيوت، أما غير المرضى فيوضعون في الخيام قبل نقلهم إلى مراكز الإيواء».

إلى الواحة

بعد رحلة العلاج، يُعاد المرضى ومرافقوهم إلى منطقة يطلق عليها اسم الواحة، يقول أبو محمود، سائق سيارة ينقل أهالي المخيم إلى تلك النقطة، أن الواحة عبارة عن مشتل زراعي يقع على طريق دمشق-بغداد، ويبعد نحو ستين كيلو متراً شمال شرقي مدينة الضمير بريف دمشق.

منذ بداية 2020، تحول المشتل إلى نقطة تجمع لنازحي مخيم الركبان باتجاه مناطق النظام. تم بناء عدة خيام في المكان لإيواء القادمين، كذلك وُضعت غرف مسبقة الصنع أخيراً للمرضى. وتتم حراسة الواحة من قبل قوات النظام.

يقول أبو محمود، ويتطابق قوله مع حديث أم آية ووالدة الطفلة نور، أن المكان محاط بالحواجز العسكرية التابعة لقوات النظام، ولا يستطيع أحد الوصول إليه من المدنيين باعتباره منطقة عسكرية، ويوجد في الواحة مكتب للهلال الأحمر يتم تقديم المساعدات الطارئة للقادمين، وأن الأسماء توثق من قبل «الضامن الروسي»، الأمر الذي يحول دون اعتقال أي شخص من الواحة.

لا يُسمَح لأحد بمغادرة الواحة، ويتم تفقُّد الموجودين يومياً، قبل أن يُنقَلوا إلى مراكز إيواء في مدينة حمص، وهنا تنتهي الضمانات ودور المكتب الأممي.

من مراكز الإيواء (الترك أو الاعتقال)

لا تزيد فترة «الترانزيت» في الواحة عن خمسة عشر يوماً، بحسب من تحدثنا معهم، تقول أم آية إنها وبعد ولادتها بقيت في الواحة هذه المدة قبل أن تُنقَل إلى مدرسة في مدينة حمص.

في المدرسة يتم استجواب الأشخاص من قبل «ضباط» بحسب أم آية. جميع الأسئلة تتركز حول المخيم والفصائل الموجودة والزوج والعائلة والعملة المتداولة، وفيما إن كان فرد من العائلة ينتمي «للإرهابيين». يُسمَح للأشخاص بمغادرة المدرسة لساعات قليلة لتأمين احتياجاتهم الخاصة، وداخلها يتم توزيع المساعدات والغذاء. في حالة أم آية تُركت بعد خمسة عشر يوماً لتذهب إلى المكان الذي تريده، دون أن يكون الذهاب إلى مخيم الركبان، حيث زوجها وطفلتها، خياراً متاحاً.

يقول منسق الهلال الأحمر أبو سعيد إن عملية «مصالحة» تتم في مراكز التجميع في حمص، ويُحجَر الأشخاص صحياً لمدة خمسة عشر يوماً بحجة كورونا قبل أن يُطلَق سراحهم، لكن بعض الأشخاص ما زالوا ينتظرون ورقة المصالحة منذ أشهر، بعضهم مضى على وجوده ثمانية أشهر، وهناك أشخاص تم تحويلهم إلى سجن عدرا المركزي ومن ثم إلى المحكمة. كثيرون اضطُروا لدفع مبالغ مالية كبيرة للإفراج عنهم، وما يزال بعضهم في السجون.

سامر العمر، وهو من منطقة جيرود بريف دمشق، أجرى مصالحة وعاد بعدها بطرق التهريب إلى المخيم خوفاً من البقاء. يقول إن أحداً منهم لم يرَ مضمون هذه الورقة. كانت عبارة عن تحقيق حول حياة السكان في المخيم، الفصائل، أماكن تواجدهم، أماكن تواجد القوات الدولية، التعامل معهم، سبب العودة إلى مناطق سيطرة النظام. ويقول سامر إن أشخاصاً كانوا برفقته اعتقلتهم الجهات الأمنية، ولم يُعرَف عنهم شيء فيما بعد.

يؤكد كلام سامر ما نقله المركز السوري للعدالة والمساءلة حول معلومات مفصلة عن اعتقال 133 مدنياً من مخيم الركبان منذ عودتهم إلى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، كما تم إرسال بعض العائدين لإكمال خدمتهم العسكرية الإجبارية. سبق ذلك اعتقال 174 شخصاً آخرين بحسب ما وثقته الرابطة السورية لكرامة المواطن.

نموت معاً

تمرّ ساعات لا تحتمل من الألم، يقول ياسر العمر، 41 عاماً، الذي يعاني من مرض كلوي يرافقه منذ ما يزيد عن السنتين. فالأدوية المسكِّنة التي كان يتناولها لم تعد تفي بالغرض، وأيضاً هي الأخرى لم تعد متوافرة منذ إغلاق النقطة الطبية.

يرفض ياسر الذهاب إلى مناطق النظام، يقول إنه لن يعيش بعيداً عن عائلته المكوَّنة من خمسة أشخاص. أحد أبنائه في سن الخدمة العسكرية، وهو لا يريد له الالتحاق بقوات النظام إذا أراد الذهاب رفقة عائلته. يخبرنا أن الألم أقلّ صعوبة عليه من الذهاب للعلاج وعدم العودة.

كثيرون مثل ياسر والمدرّسة نور إبراهيم، التي فضلت إجراء قيصرية عبر الإنترنت على دخول مناطق النظام، ومن هؤلاء أصحاب أمراض مزمنة ومرضى كبد وسرطان يحملون ألمهم وخيارهم وحيدين. «لكن الخيارات تضيق حين يكون المريض طفلاً وصاحب القرار أباً»، يقول خالد، من مدينة السخنة بريف حمص الشرقي.

أُصيب طفل خالد، ذو العشر سنوات، بالتهاب الزائدة الدودية، وكان لا بد من عمل جراحي، وهو ما دفعه لإرسال عائلته بأكملها إلى مناطق النظام. يبرر الرجل ذلك بأنه لن يستطيع دفع المبالغ التي تتطلبها عمليات التهريب والمخاطرة أيضاً، ولا يمكن أن يُبعد ابنتيه عن أمهما.

يحاول خالد البقاء في مكان عمله أكبر قدر ممكن لتجنب الوصول إلى بيته الطيني، يخبرنا أنه «لا يريد تذكر بيته الفارغ البارد المليء بالذكريات».

تزيد كلفة طرق التهريب، عدا عن المخاطر، عن ثلاثة ملايين، وهو مبلغ لا يمكن لمعظم سكان المخيم تحمله، إذ لا يتجاوز دخل الفرد يومياً ثمن علبتي سردين وسط الغلاء الذي فرضه الحصار. يقول أبو صبحي، وهو وجيه من منطقة مهين بريف حمص الشرقي، أن النظام استغلّ إغلاق النقطة الطبية لإجبار الأهالي على العودة، وكذلك لتلقي المبالغ المالية والرشى والإتاوات.

يرى أبو صبحي أن الحل هو إعادة فتح المركز الطبي التابع للأمم المتحدة. يقول إنهم تواصلوا مع الجانب الأردني مراراً دون جدوى، وإن جميع الوعود التي تلقاها سكان المخيم من العالم والمنظمات الإنسانية كانت كاذبة.

دفعت أم آية المبلغ المطلوب لمهرّب أوصلها وطفلتها إلى مخيم الركبان. تقول إنها اشتاقت لعائلتها وبيتها الطيني، والحياة هنا أقل قسوة من مناطق سيطرة النظام بعيداً عن عائلتها.

لا يمكن لنا أن نفصّل طرق التهريب، خوفاً من انقطاع الأمل الوحيد بعودة عشرات الذين ينتظرون أن يجمعوا ما يُمكّنهم من دفع فواتير العودة إلى بيوتهم الطينية من جديد.

الممرض شكري شهاب في صيدلية في مخيم الركبان

ما يشبه الصيدليات

في المخيم نحو عشر صيدليات، واحدة منها مجانية في نقطة شام الطبية، ثلاثة من الصيدليات عبارة عن رف في أحد المحلات التي تبيع مواد غذائية أو ألبسة، بينما تمتلك باقي الصيدليات قوام الصيدلية، إذ تختص بالدواء دون السلع الأخرى، وتضم عدة رفوف خشبية توضع عليها بعض الأدوية، لكن دون مراعاة الشروط الصحية لتخزين الدواء في منطقة يختلف فيها المناخ بين الليل والنهار، وتتجاوز فيها درجات الحرارة أحياناً الخمسين درجة مئوية وتقل في أحيان أخرى عن عشرين درجة.

يشترك جميع من يعملون في صيدليات المخيم بصفة واحدة، أنهم غير حاصلين على شهادة تؤهلهم لفتح صيدلية، ويفترقون عن بعضهم بامتلاك اثنين منهم شهادة في التمريض، ما يجعل الوثوق بما يقدمونه من أدوية أمراً متاحاً.

يقول من تحدثنا معهم إن الصيدليات هي المكان الوحيد الذي يلجأ إليه المرضى في ظل غياب الأطباء، لكن ذلك ليس «أميناً» في مخيم الركبان، إذ يكتفي معظم أصحاب الصيدليات بإعطائهم الدواء دون شرح أو تقدير للآثار الجانبية أو المضاعفات.

أما فيما يخصّ الأدوية، فيتم الحصول عليها بطرق التهريب من مناطق سيطرة النظام. يقول عمر، أحد أصحاب الصيدليات في المخيم، إن الدواء في السابق كان متوافراً، ومع حصار النظام للمخيم في العام 2019 تضاعَف سعر الدواء، أحياناً إلى أضعاف كثيرة.

يقول عمر إن سبب ارتفاع سعر الأدوية يعود إلى النسب المئوية التي يدفعونها لأصحاب سيارات التهريب لإيصالها والتي تتراوح بين 70 إلى 200 بالمئة من ثمن الدواء، وكذلك الأسعار المرتفعة التي تباع فيها الأدوية من مناطق سيطرة النظام، «خاصة وأن هذه الفواتير لا تكون نظامية، ما يضطرنا لشرائها من مستودعات تقبل ببيعها، أو عن طريق صيادلة يتقاضون أرباحهم عليها». وهناك أيضاً، بحسب عمر، بعض أصحاب الصيدليات الذين يبيعون الأدوية بأسعار مرتفعة.

أخذنا عينة من أسعار الأدوية في مخيم الركبان، وقارنّاها بأسعارها في مناطق سيطرة النظام. اختيرت العينات العشر من الأدوية الأكثر استخداماً، ووجدنا أن الفارق لا يقل عن ضعفين، ويصل أحياناً إلى خمسة أضعاف أو أزيد من ذلك.

أسعار الأدوية بين المخيم ومناطق سيطرة النظام

القابلات في المخيم: ما نفعله معجزة

ولادة قيصرية دون أخصائي وعبر الإنترنت، ليست تلك المعجزة الوحيدة في مخيم الركبان التي كانت بطلاتُها قابلات قانونيات يفعلن ما بوسعهنّ لإبقاء الحياة في المكان. تقول القابلة أم محمود أن نحو 35 بالمئة من الولادات في المخيم تحتاج لعمليات قيصرية، وأن الكثير من الحوامل يرفضن الذهاب لمناطق سيطرة النظام فنقوم بمحاولة توليدهنّ طبيعياً.

بعض النسوة لديهن سوابق ولادة قيصرية أو أزيد من ذلك، وتوليدها «طبيعياً» يعتبر معجزة، لكننا اضطُررنا لفعل ذلك مرات كثيرة، بسبب عدم رغبة المرضى الذهاب إلى مناطق سيطرة النظام، أو بسبب الولادة المفاجأة وتأخُّر سيارة الإسعاف والموافقة على الدخول.

قصص كثيرة ترويها القابلات عن عملهن دون أدوات، عن أطفال تحفظهم العناية الإلهية في مكان لا يوجد فيه «حاضنة أطفال» ولا أجهزة مناسبة لفحص الطفل وعلاجه، ولا «غوّاصات» للأطفال الخدج.

تتحمل الأم، بحسب القابلة أم محمود، العبء الأكبر في رحلة العلاج نحو مناطق النظام أو البقاء والولادة في المخيم، بما تحمله من احتماليات لوفاتها أو جنينها، وتبقى السيدات والأطفال الفئة الأكثر هشاشة، خاصة مع خوفهن من البقاء وحيدات إن قررن البقاء في مناطق سيطرة النظام، وخوفهن من التعرض لهن أو اعتقالهن. وكذلك: أين سيعشن رفقة أبنائهنّ؟ الذهاب إلى هناك يشبه أن تصبح السيدة أرملة، مع أن زوجها على بعد مسافة قصيرة منها لا يمكن عبورها للوصول إليه.

سريران وأجهزة أكسجين في نقطة شام الطبية

اختناق

تضع أم علي قطعة قماش مبلّلة بالماء على أنفَي طفلَيها مريضَي الربو لتمنع عنهما استنشاق الغبار. تقول إنها ومع كل عاصفة غبارية — وما أكثرها في مخيم الركبان — تضطر لفعل ذلك، وتتوجه إلى نقطة شام الطبية حيث يوجد جهاز إرذاذ واحد لكل سكان المخيم، وتنتظر دورها الذي قد يطول في جو لا يمكن فيه للشخص أن يرى إصبعه من الغبار.

يؤكد شكري شهاب أن كثيرين مصابون بالربو في المخيم. «لدينا نحو خمسة عشر شخصاً يحتاجون للرذاذ، نقدم ما نستطيع ضمن الإمكانيات المتاحة لهم».

يُمنَع المرض في مخيم الركبان، تُمنع المفاجآت أيضاً: لدغة أفعى قد توصلك إلى موتك أو تركك لعائلتك إلى أمد غير معلوم. لا مصول في المخيم، لا عدة جراحية، لا طبيب أو مخبري أو صيدلاني، لا حواضن أو أجهزة إنعاش. «اللاءات كثيرة»، يقول من تحدثنا معهم، ويمكن اختصارها بـ«لا شيء هنا». يقول خيرت كابالاري: «أمور كهذه لا يمكن قبولها ونحن في القرن الحادي والعشرين، يجب أن يتوقف فقدان الحياة بهذه الطريقة المأساوية».

لم تنجُ نور، الطفلة التي رافقتنا في رحلتنا للحديث عن الواقع الطبي في مخيم الركبان منذ البداية. لم تصل إلى المشفى بل ماتت في الطريق بعد شهر من الجفاف وسوء التغذية والتهاب الأمعاء. تقول أمها إن قَدَرها أن تُدفَن في بلدة الضمير، بعيدة عن عائلتها، لتتركها وحيدة في الواحة تنتظر ترحيلها إلى مستقبل غائب الملامح.