نشر في الجمهورية نت | دولة حبر بلا أوراق
صحفيات وصحفيون من مخيم الركبان
كان تحوُّل نقطة عبور الركبان إلى مخيم فصلاً جديداً في حياة العالقين هناك في المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن، ما استدعى إيجاد شكل من الحوكمة لتسيير حياة السكان الذين زاد عددهم في مراحل معينة عن مئة ألف شخص، ونقص أخيراً إلى نحو عشرة آلاف من المحاصرين منذ نهاية 2018.
معظم سكان مخيم الركبان، أو الذين تواجدوا فيه خلال فترات زمنية متقطعة، هم من أبناء ريف حمص الشرقي (القريتين ومهين وتدمر)، ومحافظة دير الزور وعشائر بني خالد والعمور، مع نسبة قليلة من محافظات الرقة وحلب وحماة وعشائر النعيم والحديديين والفواعرة. تنقسم أحياء المخيّم، التي بُنيت على مراحل، بحسب المنطقة أو العشيرة، ويلوذ بهم آخرون سكنوا في هذه التجمعات وجاوروها.
قبل الثورة، غلب على من التحق بمخيم الركبان العمل في وظائف حكومية، إضافة للزراعة وتربية الماشية، ومع بداية الاستقرار في هذه المنطقة الصحراوية، حافظ قسم منهم على تربية الماشية، في حين غابت الوظائف في القطاعات كافة لندرة الدعم أو غيابه الكامل في مراحل معينة، بينما لجأ قسم منهم إلى افتتاح محلات صغيرة لبيع المواد الغذائية والتموينية، وبعض الورش الصغيرة لتلبية متطلبات الحياة، كالحدادة والنجارة والبناء ومكابس «طوب الطين».
ثلاث إدارات مدنية
يحدد الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية الهدف من إنشاء المجالس المحلية بـ«سد الفراغ الذي تركته الدولة الغائبة من خلال تقديم الخدمات المدنية لأكبر قدر ممكن من الأفراد بأفضل طريقة ممكنة، على أن تكون نواة البلديات المستقبلية والتي سترتبط بالحكومة المؤقتة والمنتخبة لاحقاً».
كان أول ظهور للمجالس المحلية السورية في بداية 2012، واقتصر عملها في البداية على الجانب الإغاثي، قبل أن يتطور لاحقاً ليضم مكاتب عديدة من شأنها سد الفراغ في المناطق التي سيطرت عليها فصائل المعارضة. ويختلف دور هذه المجالس، بحسب المنطقة والظروف السياسية والدعم المقدم، كذلك علاقتها بالفصائل العسكرية والدول الداعمة أيضاً. في سبيل ذلك شُكّلت مجالس محلية وغابت أخرى، تم تشكيل بعضها بالتعيين المباشر أو من خلال الاتفاق، بينما تدخلت الفصائل العسكرية في تشكيل مجالس أخرى، وانتخبت بعض هذه المجالس من قبل السكان في مراحل متقدمة.
لم يكن التشكيل الأول في مخيم الركبان تابعاً للائتلاف الوطني، رغم أن ولادته كانت في 2016، كما أنه لم يحمل اسم المجلس المحلي، بل اتفق المجتمعون من بعض أطياف المخيم على تسميته بـ«مجلس عشائر تدمر والبادية»، الذي تأسس في حزيران (يونيو) من عام 2016.
شهد الاجتماع الأول تشكيل هيئة عامة من أشخاص يمثلون عدداً من أحياء المخيم، وأسفر عن تعيين رئيس للمجلس، إضافة إلى عدة مكاتب: التنسيق الخارجي، التنفيذي، الصحي، التعليمي، الإعلامي، الإغاثي، الخدمات العامة، شؤون النازحين، الشؤون الاجتماعية، المرأة والأسرة، إضافة لديوان العشائر. عُيّنت الأسماء بناء على التشاور ومراعاة المحاصصة المناطقية في التمثيل، ومرّ مجلس عشائر تدمر والبادية بثلاث دورات، كان آخرها في الخامس والعشرين من آب (أغسطس) 2020، الذي شهد وجود ممثلة عن مكتب المرأة والأسرة ضمن صفوفه.
يقول شكري شهاب، رئيس المكتب الصحي في مجلس عشائر تدمر والبادية، إن الفكرة أتت مع زيادة عدد السكان في المخيم، وإيقاف الدخول إلى الأراضي الأردنية: «كان لا بد من وجود تمثيل يهتم بأمور النازحين، فدعونا إلى اجتماع. حضر من كل منطقة وجيه، وتم الاتفاق على الاسم، ثم تقدم من كل منطقة خمسة أشخاص وشكّلوا الهيئة التأسيسية التي انتخبت المكاتب التنفيذية».
بعد مجلس عشائر تدمر والبادية، تم تشكيل ما أُطلِق عليه «المجلس المحلي بمخيم الركبان». يقول أبو جاسم الخالدي، رئيس مكتب التنسيق الخارجي في المجلس، إنه تشكل بداية 2017، وعُيِّن أعضاؤه بالتشاور من قبل الوجهاء، وقُسم إلى عدة مكاتب، إضافة لرئيس المجلس: الخارجي، الخدمي، الإحصاء، المرأة، الإغاثة.
أمّا الجسم الوحيد الذي تعود تبعيته للائتلاف الوطني، فهو ما أطلق عليه «الإدارة المدنية في مخيم الركبان»، التي تشكلت في آب (أغسطس) 2017 في الأردن.
الإدارة المدنية، التي تغيب عن معرفها الرسمي على فيسبوك منذ نهاية 2019، كانت تُصدر بيانات ومحاضر اجتماعات دورية، وتتألف من عدة مكاتب إضافة لرئيس الإدارة ونائبه، وهي: مكتب الإحصاء، المكتب الصحي، الإعلام، المالية، الخدمات، التربية والتعليم، المرأة، إضافة للقضاء ومكتب الشكاوى. والإدارة المدنية هي الجهة الوحيدة التي خصَّصت مكتباً للقضاء، خلافاً لغيرها من الأجسام المدنية في المخيم.
يقول مدير المكتب الإعلامي في الإدارة المدنية إن تعيين أعضاء المجلس يكون من وجهاء كل منطقة أو عشيرة، ويتم «اختيار رئيس المجلس من بين الأعضاء بالتصويت»، فيما يتم اختيار الأعضاء وفق شروط محددة. ويخبرنا رئيس مكتب الإحصاء في الإدارة أن التشكيل تم من قبل الجانب الأردني، لم يترشح أو ينتخب أحد من قبل أبناء المخيم. ويضيف أنه لا يوجد دورات انتخابية للإدارة المدنية، وفي حال ترْك أحد الأعضاء لمكانه، يتم اختيار بديل عنه وفق الطريقة السابقة.
ليس للأجسام الثلاثة مقرات رسمية، ولم يشترك سكان المخيم في تكوينها أو انتخاب أعضائها، ومثل مجالس محلية في مناطق سورية أخرى، يتم الاختيار بناء على المحاصصة والاتفاق بين مكونات المخيم، ولم تتوحد في أي من الأوقات فيما بينها لتشكيل جسم واحد يقع على عاتقه خدمة أبناء المخيم، وهو ما حال دون اتخاذها لقرارات ملزمة، إذ تُصدَر هذه القرارات بشكل فردي، إن وجدت، وتتوحد في بعض الرؤى والمواقف السياسية، أو في ما يخص بعض المشكلات التي تعترض حياة سكان المخيم، كذلك خلال توزيع المساعدات الإنسانية.
الأجسام الثلاثة تقول إنها تمثل مخيم الركبان بالكامل، في حين قال من استطلعنا آراءهم من سكان المخيم إن دورها لا يتعدى كونه حبراً على ورق، وإن هذه المكاتب بمسمياتها ما هي إلا أسماء للتداول، يعرف أصحابها أنهم لا يمتلكون أي سلطة مدنية أو تنفيذية، وليس لهم دور في تقديم المساعدة المنقطعة أصلاً عن مخيم الركبان بسبب غياب الدعم. ورأى آخرون أن عدم فاعلية هذه الأجسام ناجم عن تفرقها وندرة الدعم من المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية، وكذلك عدم وجود سلطة تحمي قرارات هذه المجالس، إضافة لحالة الحصار الذي يعيشه السكان، وشلل قدرة المجالس عن تقديم المساعدات بسبب ذلك.
دور المجالس الثلاثة يقتصر على البيانات وتوزيع الإغاثة
يتفق من تحدثنا معهم في الأجسام الثلاثة التي تمثل مخيم الركبان على دور وحيد هو توزيع المساعدات الإنسانية، لكن هذا الدور أيضاً غاب أخيراً بعد توقفها منذ أزيد من عامين على وصول الدفعة الأخيرة.
ليس لهذه الأجسام دور في دعم العملية التربوية أو الصحية لعدم توفر أي دعم لها، وإن كان دور المجالس المحلية في مناطق أخرى يرتبط بمذكرات تفاهم مع منظمات إنسانية لتنفيذ مشاريع في المخيم، فإن هذه المشاريع لا تمرّ على المخيم المحاصَر المَنسي. كذلك لا توثّق هذه المجالس الولادات أو الوفيات، ولا تقوم مقام دوائر النفوس، ولا يوجد في المخيم توثيق عقاري أو رسوم على المحال القليلة في سوق المخيم، وليس للمجلس، أخيراً، دور في دعم الطحين والخبز وترحيل القمامة كغيرها من المجالس في مختلف المناطق.
ولا يتقاضى أعضاء المجالس أي رواتب، وليس لهم مقرات، حيث تُعقد الاجتماعات في بيت أحدهم. وفي حال وجود شكوى من قبل السكان، فليس هناك آلية لإيصالها إلا عبر المحادثة الشخصية. وتدرس هذه الأجسام أحوال سكان المخيم دورياً، وإصدار البيانات للأمم المتحدة والمناشدات للمنظمات الإنسانية دون أي رد، فيما تطول قائمة الاحتياجات يوماً بعد يوم.
يقول الخالدي: «ليس هناك خطة عمل سنوية في المجلس المحلي، وهم لا يملكون أي صلاحيات في حال تقدم الناس بشكوى، وجميع المناشدات والتواصلات مع منظمة الأمم المتحدة والائتلاف الوطني قوبلت بوعود وتبريرات لعدم وصول المساعدات بحجة منع قوات النظام وروسيا إدخالها، كما لا يملك المجلس أختاماً أو إيميلات موثّقة».
ويخبرنا رئيس مكتب الإحصاء في الإدارة المدنية أنه لا دور للإدارة في تأسيس البيوت أو منحها التراخيص اللازمة، كذلك المحلات، وليس لها دور في شق الطرقات أيضاً. وأضاف أن دور الإدارة في السابق كان يقتصر على تنظيم توزيع المساعدات الإنسانية المقدمة من مكتب الأمم المتحدة بدمشق، إذ لا توجد جهة أخرى تقوم بأعمال داخل المخيم، وهم في الإدارة ناشدوا المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية لتسهيل خروج العائلات باتجاه الشمال السوري وفك الحصار عن المخيم، لكن لم يلتقوا رداً من أي جانب حتى اللحظة.
ويقول مدير المكتب الإعلامي في الإدارة إن التواصل مع مكتب الأمم المتحدة في دمشق يتم عبر الواتسآب بشكل شهري، وذلك لرفع الاحتياجات وشرح معاناة النازحين والتساؤل حول موعد تسليم المساعدات. إلا أنهم فقط يتلقون إجابة بأنهم «يحاولون». وهم لا يضعون خطة سنوية لعملهم لأنه «لا يمكن وضع خطة دون دعم لتنفيذها».
مجلس عشائر تدمر والبادية يحظى بدور أكبر داخل مخيم الركبان، إذ تنشط صفحاته على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة في الجانب الصحي والتعليمي،كما يُلاحَظ قيام بعض أعضائه بتوثيق وإحصاء عمل النقطة الطبية ورفع الاحتياجات والمناشدات، ولعب دور توعوي للحد من انتشار بعض الأمراض والأوبئة في المخيم.
يخبرنا أحد أعضاء مجلس عشائر تدمر والبادية أنهم يعملون بحسب الإمكانيات والظرف الراهن. المخيم محاصر، ولا يمكن إدخال أي مساعدات إليه إلا بعد موافقة دولية. يقول إن المجلس صلة وصل بين السكان والعالم الخارجي لإيصال ما يعيشونه من معاناة، وبين مكاتب الأمم المتحدة وأشخاص مسؤولين عن أبناء مدنهم في المخيم لتوزيع المساعدات على الأهالي في حال وصولها.
ويقول أيضاً إن مراسلات مسجلة جرت بين مجلس عشائر تدمر والبادية وبين مكاتب الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية وحقوق المرأة والطفل ومنظمة العفو الدولية، جميعها لم تفلح، وما يزال المخيم محاصراً، دون أي خدمات حتى على صعيد الصحة والتعليم. ويضيف أنهم يقومون على وسائل التواصل الاجتماعي بنشر كل شيء عن المخيم، وإبلاغ وزارات خارجية دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وإرسال تقرير شهري عن حال المخيم للأمين العام للأمم المتحدة، دون ردّ أيضاً.
وبمبادرات فردية، يقوم المكتب الطبي في المجلس بحملات توعية، مثل التوعية بفيروس كورونا أخيراً، وجدري الماء. أما في الجانب التعليمي، فيقتصر دورهم على نقل الواقع، إذ يفتقر المخيم للمستلزمات الدراسية والقرطاسية ووسائل التعليم والمقاعد، كذلك يعمل المدرسون كمتطوعين دون رواتب، والأهم من ذلك أن التعليم مقتصر على المرحلة الابتدائية فقط، وهو ما يمكن تسميته «محو أمية وليس تعليماً»، بحسب من تحدثنا منهم. ولا تُصدر الأجسام الثلاث أي وثائق تثبت إنهاء المرحلة التعليمية، ما يعني عدم القدرة لاحقاً على إلحاق الطلبة بالمدارس الإعدادية إن وجدت، وكذلك الالتزام بالامتحانات الرسمية للشهادتين الإعدادية والثانوية.
يقول أبو صالح العموري، المدير التنفيذي لمجلس العشائر، إن الأجسام الثلاثة تعمل على تنظيم المساعدات الإنسانية وتحديد عدد المستفيدين في المخيم، دون دور لها حتى في ترحيل القمامة. كذلك تغيب الإحصائيات الدقيقة وتسجيل الولادات والوفيات وحالات الزواج.
سكان بلا أوراق ثبوتية
يخبرنا أبو صالح العموري إنهم في نقطة تدمر الطبية يقومون بتوثيق حديثي الولادة في سجلات (الاسم، الأب، الأم، جنس المولود، تاريخ الولادة) دون القدرة على منح وثائق رسمية. كذلك تقوم المدارس بهذا الدور للطلبة الملتحقين بصفوفها، والذين يتناقص عددهم يوماً بعد يوم. يفسّر الأهالي تسرب أولادهم من المدارس بعدم وجود الشهادات، وبغياب القدرة على إكمال التعليم، فلماذا سيرسلونهم إذن!
تقول فاطمة، وهي مدرّسة في واحدة من مدارس المخيم، إن مدير المكتب التعليمي أخبرها بتسرّب نصف عدد الطلاب في المدارس الذين كان عددهم يزيد عن ألف وخمسمائة طالب. وتضيف أن الزواج في المخيم يتم «مشافهة» دون عقود، ويُعقَد بشكل شرعي بوجود «شيخ وشهود»، وأن كثيراً من الفتيات القاصرات يتم تزويجهن في المخيم، كما تتحدث عن زيادة في حالات الطلاق داخل المخيم.
تروي فاطمة قصة فتاة وصلت إلى مخيم الركبان وهي حامل بطفل، وذلك هرباً من تنظيم داعش الذي دخل إلى مدينتها تدمر. تقول إن زوجها طلّقها على الهاتف، وأن طفلها عاش في المخيم دون أوراق ثبوتية، وتخبرنا أن عمرها لم يكن يتجاوز الخامسة عشر في ذلك الوقت. يعيش الطفل اليوم في مدينة حمص مع جدته، وتقول فاطمة إنه إلى الآن دون أوراق ثبوتية، وإن دائرة النفوس في حكومة النظام لم تمنح الطفل نسباً، خاصة وأنه لا يملك شهادة ولادة، كما أن عقد زواج والدته غير مثبَّت في الدوائر الرسمية.
الموتى أيضاً لا يملكون شهادات وفاة، فمعظم الذين ماتوا داخل المخيم ما زالوا أحياء في نظر حكومة النظام. يروي لنا أحمد، وهو شاب من سكان المخيم، أن والدته عادت إلى مناطق النظام للحصول على أوراق تثبت موت زوجها ولتتقاضى راتبه التقاعدي، لكن دون جدوى. إذ ليس لدى السيدة أي ورقة تثبت موت زوجها.
تقول فاطمة: «إلى متى سنبقى هكذا؟ هناك جيل كامل من التائهين في الصحراء بلا أوراق أو صحة أو تعليم، قَدَرُهم أن يعيشوا كالصحراء التي يسكنونها، الفارق الوحيد أن البدو كانوا يرحلون أينما يريدون أما نحن فمحاصرون في مكان واحد ننتظر كل شيء أو اللاشيء».
مخفر دون مخفر أو شرطة
في مخيم الركبان رئيس مخفر، إلا أنه لا يملك أي صلاحيات أو قوة تنفيذية. هو اليوم يسكن داره، دون بناء أو مقرّ لتسلُّم مهامه، ودون عناصر أيضاً لحل المشكلات أو ضبط الحياة داخل المخيم.
في الأول من كانون الأول (ديسمبر) 2020، تم الاتفاق بين فصائل الجيش الحر ومجلس عشائر تدمر والبادية على تشكيل دائرة للصلح، مهمتها حل النزاعات والخلافات في المخيم، على أن تتكون من جهاز رقابة وديوان للصلح وجهاز قضائي وآخر للشرطة المدنية. وفي الثامن عشر من الشهر ذاته، أُعلِن عن تشكيل شرطة مدنية من أبناء المخيم في مقطع مصوَّر، وظيفته بحسب البيان حماية الأهالي وتقديم المساعدة لهم في حالات السرقة والمنازعات والحد من إطلاق النار.
كان ذلك حبراً على ورق أيضاً. يقول من تحدثنا معهم إن ما حدث كان إجراء شكلياً، إذ لا يمكن القيام بمثل هذه الخطوة دون دعم مالي لتأمين الرواتب والمصاريف اللوجستية، كذلك دون اتفاق بين الأجسام في المخيم والفصائل العسكرية.
ليست تلك المرة الأولى التي يفشل فيها إنشاء سلطة تنفيذية في مخيم الركبان، بل سبق ذلك إنشاء هيئة أركان نتج عنها إيجاد دار للقضاء ومخفر للشرطة إضافة لسجن، وذلك في الثامن من كانون الأول 2018.
تم ذلك بالاتفاق بين الفصائل العسكرية وأجسام المخيم المدنية، وقدم كل فصيل عدداً من العناصر لتشكيل الشرطة المدنية، وتشكلت دار القضاء من قاضي فرد عسكري وقاضيَين مدنيَين. كذلك كان هناك محامون داخل المخيم، إلا أن ذلك لم يستمر إلا لثلاثة أشهر فقط، إذ أعلنت الإدارة المدنية حل جهاز الشرطة في السابع عشر من نيسان (أبريل) 2018، بعد أن قام عناصر من الشرطة المدنية بالدخول إلى دار القضاء وإخراج أحد الموقوفين بالقوة.
يقول من تحدثنا معهم إن غياب الدعم هو السبب الرئيسي لفشل قيام أي سلطة مدنية أو تنفيذية، إذ لا يمكن بناء مخفر في المخيم أو دفع رواتب العناصر والقضاة فيه، ولا يمكن حتى إطعام سجين في حال حُكِم على أحدهم بالسجن، وهو ما حال دون وجودها والاعتماد على القضاء العشائري والعرف في حل النزاعات.
يقول رئيس مكتب الإحصاء في الإدارة العامة إن عدم وجود دعم حال دون وجود سلطة تنفيذية أو شرطة لتطبيق القانون في المخيم، ويخبرنا أبو جاسم من المجلس المحلي أنه لا يوجد إمكانية لحل الشكاوى التي يتقدم بها السكان، ولذلك يتم الاعتماد على العرف والعادات والتقاليد في حل المشكلات.
يخبرنا عضو مجلس عشائر تدمر والبادية أن هناك شرطة مدنية في المخيم يتم الاعتماد عليها في استدعاء الأشخاص في حال رفضهم القدوم، وبعد إخطار وجهاء من مدينة المطلوب. لا يوجد سجن أو دائرة قضاء مدني، لكن يوجد سجن في قاعدة التنف العسكرية التي تتبع لقوات التحالف الدولي، وهو مخصص للأشخاص الذين يهددون المخيم أو من المتعاونين مع داعش والميليشيات الإيرانية. «المشكلات في مخيم الركبان قليلة، ونسبة الجرائم متدنية، ونحن نعتمد في حلها على الصلح والديّة».
القضاء العشائري والعرف يحكمان مخيم الركبان
غياب القضاء المدني دفع سكان مخيم الركبان إلى اعتماد الصلح بالعرف والدِّيَة لتسوية خلافاتهم، ساعدهم في ذلك خلفية السكان العشائرية، والتي ما تزال تعتمد في كثير من الدول، ومنها الأردن والعراق وفلسطين وسوريا، على القضاء العشائري في حل ما يعترضها من مشكلات.
وللقضاء العشائري أعراف وإجراءات وأحكام متوارثة، وهو بحسب من يخضعون له «أسرع في التقاضي»، كذلك يعتبر «أكثر فائدة» من القانون المدني عند العشائر، لما يتمتع به من سرعة ودفع للحقوق بدلاً من سنوات السجن. ويجب أن يتمتع القاضي العشائري بالحنكة والخبرة والقدرة على القياس للحكم في ما يعترضه من مشكلات. أحياناً يُعقَد المجلس بأكثر من قاضٍ واحد، ويعتبر الحكم فيه مُلزِماً نتيجة رضا الطرفَين المتخاصمَين المسبق بحكمه.
يقول محمد حسيان، وهو «شيخ عُرْف في مخيم الركبان»، إنه لا توجد طريقة لاختيار شيخ العُرْف، لكن يجب أن يتمتع الشيخ بأخلاق حسنة ووجاهة في عشيرته، إضافة للإلمام بالقضايا التي يمكن أن تواجهه. ويعتبر حكمه مُلزِماً ويتكفل بتنفيذه وجهاء عشيرته أو القرية التي ينتمي إليها.
يتدخل شيوخ العرف ووجهاء الركبان في حل النزاعات بين سكان المخيم، غالباً بالتراضي بين الطرفين، وتغلب على الأحكام دفع المبالغ المالية، إذ تُحدَّد الدِّيَة بحسب الجرم الواقع على الشخص.
يقول بعض من تحدثنا معهم في المخيم إنهم غير راضين بحكم العرف، ويضربون لذلك مثالاً بعقوبة السارق بإرجاع ما سرقه دون عقوبة رادعة عن الجريمة التي ارتكبها. ينطبق ذلك على قضايا مثل القتل، التي تُحَل عادة بالدية المالية. يقولون إن ذلك يدفع أهل القتيل للأخذ بالثأر على سبيل المثال بسبب عدم قناعتهم بعدالة الحكم الصادر.
ويرى آخرون عكس ذلك، فالقضاء العشائري يراعي حياة سكان المخيم، ويحميهم من تزايد الخلافات والمشكلات، إذ يتدخل الوجهاء لمنع تفاقمها مستفيدين من «سلطتهم الأبوية» على أبناء عشائرهم أو أحيائهم. كذلك يحتاج القضاء المدني إلى مختصين، وهو غير متوافر بين سكان المخيم، إضافة للسجون وتكاليف أخرى يصعب تأمينها.