أطفال مخيم الركبان: ضحكاتٌ تأبى الذبول

فاطمة الأسعد || شبكة الركبان

يعيش أطفال مخيم الركبان حياتهم داخل سجنٍ صحراويٍ مُحاصرٍ من جهاته الأربع، ووحدها السماء هي المفتوحة أمامهم. يرسلون إليها طائراتهم المصنوعة من خشبٍ وقماشٍ وبلاستيك، فتهفو قلوبهم معها كلما تلاعبت بها الرياح وارتفعت بها، في انتصارٍ رمزيٍّ على الحرمان غير المسبوق الذي يفترس براءتهم داخل مخيمٍ يعيش واقعاً هو الأسوأ من بين أمثاله في مئات المخيمات المتوزعة في أنحاء البلاد.

جاء الأهالي بأطفالهم إلى مخيم الركبان إنقاذاً لحياتهم من أخطار عديدة كانت تتهدّدها، وكانت الآمال معقودةً بأن يصلوا إلى الأردن لاجئين، حيث فضاءٌ نسبيٌ من الاستقرار. لم تحدث النهاية السعيدة، بل علق الأهالي وأطفالهم في مخيمٍ وسط الصحراء، وفي مواجهةٍ مباشرةٍ مع مروحةٍ من التهديدات: ليس المرض وقسوة الطقس والحرمان إلا الفصول الواضحة منها للعيان. هنا، لا يوفر الحرمان وشحّ الغذاء والخدمات جانباً من جوانب يوميات أطفال مخيم الركبان: لا غذاء كاف، ولا رعاية صحية، ولا تعليم، ولا ترفيه، فضلاً عن مخاطر مادية ونفسية أخرى متعددة الأوجه.

يشكل الأطفال في مخيم الركبان نسبة 40 في المئة من مجموع النازحين، كما وثّقت النقاط الطبية ولادة ٥ آلاف طفل منذ عام ٢٠١٥، وتناقص عددهم جراء خروج العوائل المتواصل منذ ذلك الحين. الأطفال المتبقون في المخيم لا يعرفون عن العالم الخارجي سوى ما يشاهدونه على التلفاز الذي تخلو منه معظم البيوتات الطينية. ليس في حياة الأطفال فضاءٌ سوى الصحراء برمالها البنية التي يطغى لونها على واقعهم وخيالهم. مواليد مخيم الركبان الذين ولدوا في الحصار ويكبرون فيه يشكلون حكايةً تكاد لا تشبه غيرها من حكايا النزوح السوري.

ولادة وترقب

ترافق الأخطارُ أطفالَ المخيم منذ اليوم الأول الذي تُحمل فيه البشرى إلى الأمهات بأن مولوداً قادماً، ليبدأ مسلسل الترقب والقهر، فالولادة المسموح بها في مخيم الركبان هي الولادة الطبيعية فقط، وذلك لوجود قابلةٍ قانونيةٍ واحدة وممرضين اثنين، هم كل الفريق الطبي المتاح في المخيم. أما خيار إجراء عملية قيصرية، فهذا يعني رحلة خروجٍ من المخيم إلى مناطق النظام، تكون العودة بعدها أمراً ليس بالهيّن.

هذا الحال دفع بإحدى النساء الحوامل، في وقتٍ سابق، إلى رفض الخروج من المخيم لإجراء عملية ولادةٍ قيصرية في مناطق النظام كما درجت عليه الأمور، لأن الانسياق وراء هذا الخيار سيعني حرمانها من طفليها وزوجها وبيتها. قررت المرأة إجراء العملية داخل المخيم، مستسلمةً أمام احتمالات الموت الممكنة. سارت الأمور بشكلٍ جيد، وأجرت لها القابلة القانونية العمل الجراحي بمتابعةٍ من أطباء عبر تطبيق زووم، وقُدر للعمل الجراحي وأن تكون النتيجة طفلاً جديداً سيغلب اللون البني على قادم أيامه.

شبح الأمراض

لا تنتهي المخاطر بولادةٍ ناجحة للأطفال، ذلك أنّ المخيم لا يضمّ طبيباً للأطفال، وليست فيه حاضنة. إنْ احتاج حديثو الولادة إلى الأوكسجين، لا سيما خلال فصل الصيف الذي تكثر فيه العواصف الغبارية، فسينتظرون دورهم بين طوابير من الأطفال الذين يصابون بحالات اختناقٍ بفعل الطقس، لا سيما أولئك المُصابين بأمراض تنفسية مُزمنة.

تلاحق الأمراض أطفال مخيم الركبان صيفاً شتاءً، وكثيرٌ منها منتشرٌ بسبب بؤس الأوضاع الانسانية والخدمية في المخيم. بعض هذه الأمراض بات بسيطاً بالمعايير الطبية، ولكنها قد تفتك بحياة الأطفال لعدم توفر البنية التحتية الطبية القادرة على تلبية الحد الأدنى من الاحتياجات المطلوبة للتعامل معها.

تنتشر هنا الأمراض الفصلية والجلدية ونوبات الإسهال الشديد والأمراض التنفسية، بالإضافة إلى أورام مجهولة المصدر وتفشٍّ لأمراض الكبد. وإذا سلم الأطفال من كل هذه الأمراض، لاحقتهم لسعات الأفاعي والعقارب المنتشر بكثرة في مخيم الركبان ذي البيئة الصحراوية القاسية.

بالإضافة إلى ذلك، تنتشر أنواعٌ كثيرةٌ من الحشرات، في حين لا توجد أي عقاقير طبية لعلاج أيّ نوعٍ من أنواع اللسعات. في المحصلة، قد يؤدي التعرض للسعة أفعى أو عقرب أمراً قاتلاً لا يمكن تداركه.

أما خيار الاستشفاء في مناطق النظام، ففيه من المخاطر ما ليس يقل عن مخاطر الأمراض نفسها، وإغلاق الأردن لنقطته الطبية الوحيدة التي كان يقصدها سكان المخيم منذ أكثر من عام، دفع الكثير من النازحين للجوء إلى الطب البديل (أو العربي كما تدرج تسميته)، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بعلاج حالات كسر العظام، إذ تنتشر عملية التجبير باستخدام البيض والصابون ومن ثم لفّ الكسر بقطعة قماش.

شيءٌ يشبه التعليم

يقتصر التعليم في مخيم الركبان على المرحلة الابتدائية، وبدأت عجلة التعليم تدور ضمن مبادرات فردية، وكان مراسلو شبكة الركبان قد ساهموا في إعداد تقريرٍ معمق نُشر في موقع الجمهورية.نت، تحدث بالتفصيل عن بدايات افتتاح المدارس.

يضم المخيم اليوم ١٦ مدرسة، يرتادها ٩٥٠ طالباً، يقضون يومهم الدراسي داخل بيوتٍ طينية تُسمى -تجاوزاً- بالصفوف، وقد تطورت مع تطور عملية البناء في المخيم، لا سيما بعد أن تداعت أسقفها فوق رؤوس التلاميذ في يومٍ غباري عاصف شهده المخيم.

تحدثت شبكة الركبان إلى عددٍ من المعلمين المتطوعين في مدارس الركبان، وكان لافتاً الحديث عن عدم وجود رغبة لدى الأطفال للتعلم، وكذلك ما وصّفوها على أنها حالات اضطراب نفسية كثيرة بين أطفال المخيم. هنا لا يحتاج الأمر الإشارة إلى عدم وجود مختصين نفسيين واجتماعيين في المخيم إطلاقاً.

وتشهد مدارس الركبان تزايد حالات إخراج الأهالي لأطفالهم من المخيم، بدعوى عدم وجود شهادات، وأن الأولوية في هذه الظروف هي مساعدة الأطفال لذويهم، على الأقل بجلب المياه، أو جمع الأوراق والبلاستيك، كبديلٍ تستخدمه معظم العائلات عن الوقود في التدفئة والطهي.

شقاءٌ فوق شقاء

تنعكس الأوضاع الخدمية المتردية داخل مخيم الركبان على الأطفال بشكلٍ مباشر، إذ أن مسألة الصرف الصحي والآليات المتبعة في هذا الصدد، تحمل مخاطر مباشرة على الأطفال، إذ أن الحفر الفنية التي تجمع فيها المُخلفات تكون مغطاةً بشوادر وبشكلٍ غير آمن، مما يجعلها أشبه بالأفخاخ للأطفال. وسُجلت في المخيم حالتا وفاة بسبب سقوط الأطفال في إحدى تلك الحفر. تتعدد مثل هذه المخاطر في مخيم الركبان، ومنها أيضاً تجمّعات القمامة التي تنتشر حول المخيم. ومن ناحية أخرى، تتعاظم ظاهرة عمالة الأطفال في المخيم، وخصوصا في مهن نقل الماء وحمل مواد البناء.

ثمة أمل، وضحكة

حياة الأطفال في مخيم الركبان تخلو بطبيعة الحال من كل أشكال الترفيه: لا ملاعب حقيقية، ولا ألعاب، ولا مسابح، ولا أي شيءٍ مما قد يسمعون عنه وعشّش في خيالهم. لا شيء بين أيديهم سوى رمال الصحراء، ومساحاتٍ مفتوحة يحولونها إلى ملاعب رحبة.

تأبى براءة الأطفال هنا الاستسلام، فيتفنّون في صنع سعادتهم الخاصة. الفتيات، مما يوفرن من قماشٍ وخيوط، يصنعون الدمى. أما الفتيان، فيرون السعادة في المخيم على شكل طائرةٍ ورقية أو كرة قدم عتيقة يركلونها في ملاعبهم الواسعة بامتداد الصحراء. كما يستحضر الأطفال في حاضرهم ألعاباً صارت من ماضي آبائهم، ولا يعرفها الأطفال اليوم إلا في الركبان: مثل اليويو القديم والبلبل وغيرها مما يمكن صنعه من اللاشيء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *