نشر في الجمهورية نت || ظلال الفرح في الركبان
صحفيات وصحفيون من مخيم الركبان
يشبه ما يحدث في مخيم الركبان المحاصر إعادة تدوير الحياة بمفهومها البكر: خلق سعادة بأدوات بسيطة، وتزيين هذه الأدوات والتنافس عليها لنسج حكاية تبقى عالقة في الذاكرة؛ لخطيبَين يحلمان بالاستمرار، يرويانها لأطفالهما آملَين لهم ألا يعيشوا التجربة ذاتها؛ لأمهات وآباء يرتبون منازلهم ويكنسون الرمل من على أرضياتها الطينية ويرممون أسقفها خشية العواصف الغبارية؛ لنوافذ من النايلون وأبواب تَصِرّ مفصّلاتها؛ لفتيات يشترين علب التجميل الرديئة المهربة من حواجز الحصار؛ لورق مقوّى يُقَص بأحجام مناسبة ليتحول إلى «كروت أعراس»؛ لمساكب من الحبق والريحان، وأخرى من حشائش النعناع والبقدونس والبصل؛ لأرجوحة للعيد، وخيال قسري يتطلب تحقيقه الكثير من الرضا للاقتناع بأن ما يشبه الحياة هنا يشبه فعلاً الحياة على بعد أمتار قليلة، وربما يفوقها لما يحمله من تفاصيل لا يمكن نسيانها.
على بعد مئات الأمتار من دول ثلاث، يصنع أطفال مخيم الركبان ألعابهم من بقايا الإسفنج وعلب السردين والأسلاك المعدنية، يرصفون أحجاراً لأبنية صغيرة من رمل إعمالاً لخيال كان مزيجاً من حكايات الأمهات و«نُتَف» مقاطع يوتيوب لبرامج شاهدوها على الهواتف المحمولة، فيها أميرات يعشن في قصور ويرتدين فساتين مُضيئة بالألوان والإكسسوار.
مخيم الركبان بقعة لصناعة الحياة، صناعتها لا شرائها ولا استيرادها. الاهتمام بكل تفصيل صغير في هذه الصناعة يتطلب من النازحين المحاصَرين محاكاة ما يتذكرونه. قد تبدو تجربة مذهلة يخوضها أشخاص بدافع المغامرة، تتحدث عنها وسائل الإعلام ويصنِّفون أشخاصها كأبطال، لكنها في الركبان طريقة حياة لآلاف الأبطال المنسيين، يرفعون أيديهم في مواجهة العالم، يقولون: «إن كان العالم قد تجاهلنا، فعلينا أن نخلق الحياة هنا بمفردنا».
ورق مقوى وغرف نوم من طين
«لو لم نعرف الكتابة لاخترعنا ما يشبه الأحرف»، ذلك أول ما يخطر في بال من يشاهد «كروت الأعراس» في مخيم الركبان: قطع من الورق المقوى الأبيض مقصوصة بعناية وبأحجام متساوية، في زاويتها قلب حب بلون بنفسجي مرسوم بخط اليد، على يساره دعوة باللون الأحمر تأمل أن «نتشرف بحضوركم»، أما باللون الأزرق فملاحظة بأن «جنة الأطفال منازلهم».
يبدو المشهد اختياراً طفولياً لتلميذ يؤدي واجباً مدرسياً، يختار الألوان بما تسعفه طفولته أيضاً، وكذلك الخط الذي يحاول أن يزخرفه. تتبدل معاني الألوان في مخيم الركبان، إذن لماذا لا يكون القلب أحمر والدعوة بالأزرق والملاحظة بالبنفسجي، كتنسيق أكثر خبرة؟ تأتي الإجابة بسيطة ومقنعة: «القلب يحتاج للكثير من الحبر، القلم الأزرق كان يلفظ آخر قطرات حبره».
في الغرفة الطينية التي تستنزف مدّخرات شبان كثر في الركبان، ومعها الحوالات المرسلة من أقرباء معهم خلف الحدود، يأخذ السرير مكانه وسط الغرفة. السرير أيضاً مصنوع من الطوب والطين بمقاس مزدوج ليحمل حياة عروسَين، يغطّى بأناقة بشرشف بني. الأبيض ليس لوناً للفرح في مخيم الركبان المغبرّ. تعتلي السرير إسفنجة ومفرش بلون زهري، وعلى جانبيه ألعاب من الدببة، ربما تكون هدايا عبرت حواجز الحصار وأهديت لحبيبة ذات عيد أو مناسبة. الأرضية فُرشت بحصير من النايلون، والبلاستيك يشكل أثاث الغرفة المتبقي من خزانات ورفوف وطاولة.
يقول من تحدثنا معهم إن غرف النوم تلك ليست «رومانسية عاشق وخياله»، هي ما يمكن أن ينجزه شابان في مقتبل العمر، يرسمان ملامح حياتهما القادمة. الغرفة التي سيتحدثان عنها طويلاً، وستحمل تفاصيل ما يعيشانه.
صالة أعراس في صحراء المخيم
كهرباء المولّدة وبطارية الطاقة الشمسية لا تكفي لإبهار المكان بالأضواء. يَصِرّ باب صالة «ورد الشام»، الوحيدة في مخيم الركبان، كغيره من أبواب المنازل الخشبية، ويفصل بين الباب والصالة أرض من الرمل وباب من القماش.
في وسط المسرح، المرتفع سنتيمترات قليلة عن الأرض، عمود يحمل السقف، وعلى جنباتها مقاعد متصلة مصنوعة من القرميد، جميعها مغطاة بشادر يحمل رمز اليونيسف، وفي نهايتها وعلى درجات ثلاث بُنِي كرسيّا العروسين، هذه المرة كان البناء حجرياً وزُيِّن بقماش أبيض محلى ببقع سوداء وورد أحمر، أما جداره فزُخرف بحجارة صغيرة ملونة.
تُحجَز الصالة قبل يوم واحد، تخبرنا أم محمد (صاحبة المكان) القادمة من حرستا في ريف دمشق، والتي وجدت نفسها عالقة في مخيم الركبان رفقة أولادها الأربعة.
وتروي أم محمد أنها تعلمت قبل زواجها مهنة «الكوافيرة، الحلّاقة النسائية»، لكنها لم تعمل بها بعد زواجها، وبعد وصولها إلى مخيم الركبان وحضورها لعدد من أعراس بنات المخيم وجدت فكرتها في بناء الصالة. تقول: «كان المشهد كئيباً، عروس تجلس على وسائد في المنزل دون زينة أو بدلة عرس. مرة رأيت فتاة تُزَف بثوب أسود. كانت الفتيات يتزوجن بثيابهن التي يمتلكنها، أحياناً لم نكن نستطيع تمييز العروس بين الفتيات الحاضرات!».
كان ذلك في 2016. تكمل أم محمد أنها بعد طرح الفكرة من قبل نساء المخيم، قامت ببناء صيوان (أعمدة حديدية أكبر من الخيمة ولها شكلها، تغطى بشادر وتستخدم عادةً في الأفراح والتعزية في المدن والقرى السورية)، وحولته إلى صالة أعراس، قبل أن تستأجر غرفة طينية تستخدمها كسكن وصالة للمناسبات وتضع فيها ما يلزم لذلك من «الأسكي وأماكن الجلوس والزينة» بعد أن تنقل أغراضها إلى المطبخ لحين الانتهاء.
كثرة الخيام وضيق البيوت الطينية والأعداد الكبيرة لسكان المخيم في ذلك الوقت ساعد أم محمد على نجاح مشروعها. تقول إنها كانت تستضيف في صالتها الطينية نحو خمس عشرة حفلة شهرياً للنساء، وعشر للرجال، وهو ما يعني أن بيتها كان مشغولاً طوال الوقت، وكانت تتقاضى خمس عشرة ألف ليرة على الحجز الواحد.
مع تطور عمل الصالة، قامت أم محمد ببناء صالة جديدة أكثر اتساعاً، هذه المرة زادت مساحتها عن ستين متراً. بنت الأسكي من الطوب، و«الأسكي مسرح صغير كان يُصنَع من الخشب ويُفرَش بالسجاد وتوضع عليه كراسيّ مميزة يجلس عليها العروسان ويرتفع نحو متر عن الأرض»، ومقاعد الحاضرين من اللَبِن. غطت الجدران بأغطية بلاستيكية، وزيّنت كرسيَّي العروسَين بالأضواء.
تقول أم محمد أن الإقبال قلّ على عمل الصالة خلال السنتين الأخيرتين، وترجع السبب لتراجع عدد السكان (نقص عدد السكان من نحو مئة ألف إلى عشرة آلاف في السنتين الأخيرتين)، ولاتساع البيوت الطينية التي بُنيت حديثاً والتي تصلح لإقامة الحفلات، إضافة للظروف المعيشية القاسية التي زادها الحصار سوءاً، ورفع قيمة استئجار الصالة إلى خمسين ألف ليرة سورية لليلة الواحدة.
تقدر أم محمد عدد الحفلات التي أقيمت في الصالة العام الماضي بنحو مئة مناسبة، وتقول فتيات تحدثنا معهم إن استئجار الصالة عادة ما يكون شرطاً بين العروسين، إلا أن تكاليف الزواج العالية تدفع كثيرات من النساء للقبول بالزواج دون حفلة.
تقول مريم، إحدى فتيات المخيم، إن الحفلة في الصالة أفضل، إذ توفر مساحتها الكبيرة فسحة للاحتفال وراحة المدعوين، إضافة لتوزيع «الضيافة»، وتشير إلى أن أكثر الحجوزات تكون للخطبة لا للأعراس، وهو ما أكدته أيضاً صاحبة الصالة.
ويخبرنا شبان في المخيم أن مبلغ خمسين ألف ليرة ليس سهلاً في ظل التكاليف الكبيرة التي على العريس دفعها. «لا تقاس الأمور بما تعيشونه، بل بما نعيشه نحن!».
«بفلات» وعراضة وغيرة
ليس في المخيم مطربون أو مطربات لإحياء المناسبات، ويعتمد سكانه على «بفلات الصوت» (المضخمات) وتشغيل الأغاني عبر الإنترنت للاحتفال. تقول أم محمد صاحبة الصالة «حتى الإضاءة متواضعة لعدم توفر الكهرباء».
وتروي أم محمد أن النساء يقمن أيضاً بغناء الأهازيج الشعبية التي يحفظنها، والتي تختلف بين منطقة أخرى. يعلق في ذهنها بعض ما يطلق عليه «الهنهونات» لتطلقها على مسامعنا: «طولك هالطول / ورب السما إلك ناطور / ومريم بنت عمران ترشلك البخور»، أو «بدلتك الحلوة طنعشر قمر فيها / وطنعشر خياط يطرز غواشيها / وقامتك هالحلوة لابن عمك خليها». ترافق هذه الأهازيج الزغاريد، وتقوم الفتيات بالرقص أمام العروس والحاضرين.
كذلك لا يوجد مطربون في حفلات الرجال، وغابت أيضاً جلسات «العتاب» في المخيم بعد رحيل كثر من سكانه من الذين كانوا يمتلكون أصواتاً جميلة. وتقتصر حفلات الرجال اليوم على اجتماع بعض المدعوين، أحياناً على غداء معدّ للمناسبة، وحلقات الدبكة.
تخبرنا فتاة في المخيم أنها زُفّت بعراضة شامية، وهو أمر نادر الحصول في المخيم، كما تغيب «زفّة السيارات» أيضاً، لكنها على حد وصفها «امتلكت أحلى زفة في المخيم». تقول: «كان ذلك يشبه ما حضرته من أعراس سابقة في مدينتي قبل نزوحي منها»، لتستعيض بزفتها عن العرس في الصالة.
تقول أم خالد إن معظم الفتيات يرغبن بإقامة حفل زفاف: «هو يوم خاص لا يمكن أن يمر دون فرح، لكن الكلفة العالية تحول دون ذلك. هناك أولويات أيضاً، لذلك نحاول أن نقدم لهن ما نستطيع من فرح في هذا اليوم». وترى أم سالم أن الغيرة بين الفتيات تزيد من الأعباء على الشبان، «فكل فتاة تحلم بأن يكون عرسها مميزاً، ولكن علينا أن نقدر ظروف بعضنا بعضاً». تتجاهل أم سالم أن «ما تطلبه الفتيات حق لهن»، بحسب أحد الشبان الذي تزوج مؤخراً، والذي رأى في هذه الغيرة أمراً مبرراً بعد أن اشترطت خطيبته عليه «حفلة في الصالة وضيافة من أنواع محددة». يقول إنها «تستحق ذلك»، وهو ما دفعه لتلبية طلبها: أن يكون عرسها مميزاً.
لأم محمد قصة أخرى تُخفيها خلف «أسكي» الصالة وأضوائها. تقول إنها تدخر ما تجنيه من عملها لعلاج طفلتها التي تعاني من حثل المادة البيضاء (في الدماغ)، والتي ستحتاج إلى علاج بتكاليف باهظة إن أتيح لها الخروج من المكان.
كوافيرات المخيم وأدوات التجميل
في مخيم الركبان أربع نساء يمتهنّ العمل «كوفيرات»، لكن أم محمد وحدها من يملك فساتين للخطوبة والأعراس لتأجيرها للفتيات. تقول إحداهنّ إن هناك إقبالاً على عملهن من قبل فتيات المخيم، ليس فقط في المناسبات بل في مختلف الأيام. وتتراوح كلفة التسريحة بين خمسة إلى عشرة آلاف، ويزيد هذا الرقم إلى نحو خمسة وعشرين ألفاً للعروس.
تبتسم مصفّفة الشعر وهي تقارن بين الوقت الحالي والأيام الأولى في المخيم.، تقول إنه لم تكن تتوافر أي مواد تساعدها في عملها، فكانت تستخدم الفازلين والماء والسكر بدلاً من الجِل، ولم يكن هناك أماكن مخصصة للحلاقة النسائية وبيع المكياج.
تخبرنا أم محمد، صاحبة «صالون ورد الشام»، أنها بَنَت في البداية صالونها من «عامودين وشادر» يُطيح بهما الهواء كل مرة ويكسّر المعدات الموجودة، قبل أن تنتقل إلى غرفة طينية خصّصتها لعملها. وتقول إن نساء المخيم زاد اهتمامهن ببشرتهن وجمالهن عما في الأيام الأولى: «تخلى السكان هنا عن فكرتهم بالإقامة المؤقتة لصالح القبول بالواقع الراهن، وأن حياتهم يمكن أن تستمر لسنوات طويلة في المخيم، وعليهم أن يتأقلموا مع هذه الفكرة».
يمكن وصف حالة صالونات المخيم للزينة بـ«الجيدة»، فهناك أدوات مثل السشوار والفير لتسبيل الشعر، إضافة للصبغات والميش، وبأسعار مقبولة، ويبقى الاستخدام الأكبر لمرطبات الوجه وواقيات الشمس الأكثر شيوعاً للعناية ببشرة النساء في البيئة الصحراوية.
كما توجد في محلات الألبسة رفوف لأدوات الزينة، مثل العطور وأقلام الحمرة وبخاخ مثبّت الشعر (السبراي) والمَسكَرة وأقلام التخطيط. تقول من تحدثنا معهن إن الأنواع المتوافرة هي بجودة منخفضة وليست ماركات مميزة، لكنهن يستطعنَ الحصول على ما يُردنه عن طريق «التواصي» عبر طرق التهريب، إذ يكفي تحديد النوع والاسم ودفع المبالغ اللازمة للحصول على ما هو متوفر في أسواق مدينة حمص أو دمشق.
وتخبرنا السيدات اللواتي تحدثنا معهنّ أن العناية بجمالهنّ أمر مهم بالنسبة لهنّ، وما يصعّب الأمر قليلاً هو المناخ الموجود في المخيم وقلة المناسبات من جهة، كذلك ضعف القدرة المالية، وهو ما يتحايلن عليه باستخدام ما هو متوفر ليحافظن على شكلهن الأنيق.
وترى إحدى السيدات في المخيم أنه «في السابق كان المخيم عبارة عن نقطة مرور مؤقتة، رافقها تعب وقهر من حياة النزوح والخوف والهجرة من المنازل، إضافة للعادات المختلفة بين أطياف المخيم الذي يضم عائلات من بيئات مختلفة، أما اليوم فتحوّل المخيم إلى ما يشبه العائلة الواحدة، فالجميع يعرف بعضه بعضاً تقريباً، إضافة لطول المدة الذي يولّد بالضرورة حالة من الاستقرار تنعكس على الثياب والشكل وحتى الطعام والشراب».
في المخيم فساتين للمناسبات تقوم أم محمد بتأجيرها، وتتفاوت إيجارات هذه الفساتين بين عشرة إلى خمسين ألفاً — يحدد ذلك نوع الفستان وشكله وجدّته أو قدمه. وتخبرنا السيدة بأنها تحصل عن طريق التهريب أيضاً على إكسسوار هذه الفساتين من حشوات ومشابك وملاقط، إضافة لبعض الحلي التي يتم تأجيرها أيضاً، والتي اشترتها منذ بداية عملها بعد حوالة مالية كمساعدة من أقرباء لها.
سهرات دون إنترنت
لا توجد صالة إنترنت في مخيم الركبان، كذلك لا يوجد شكل من أشكال المطاعم أو المقاهي الشعبية العامة، ويعتمد سكان في المخيم على الإنترنت الفضائي للحصول على وسيلة للتواصل، ولكن أسعار هذه الخدمة المرتفعة تحول دون امتلاك قسم كبير من السكان لها، إذ يبلغ سعر الباقة غير المحدودة شهرياً، والتي لا تتجاوز سرعتها 6 ميغا، نحو خمسمائة دولار. أما أرخص باقة فيزيد سعرها عن مئة دولار، وهو ضعف ما يتقاضاه عامل مياومة في المخيم.
يقول من تحدثنا معهم في المخيم إن الاجتماعات والسهرات العائلية تتم بشكل شبه يومي، وهذه الزيارات هي الوسيلة الوحيدة لتمضية الوقت في حياة السكان التي وصفوها بـ«المملة»، بعد غياب الكهرباء والإنترنت.
تخبرنا سيدات من المخيم أنهنّ يجتمعنَ بجيرانهنّ يومياً في تقليد لـ«الصبحيات» القديمة، يتبادلن أحاديث مطولة حول ما يتم تداوله في المخيم، وخاصة طرق التحايل على ظروف الحصار والأشياء التي يشترونها وأهم الطبخات الجديدة.
يرى أشخاص في المخيم أن غياب الإنترنت يزيد من التواصل الشخصي بين السكان، ولكنه يعزلهم عن العالم الخارجي. يقولون إن هذا الأمر ينعكس على الأطفال في المخيم الذين يحتاجون، في غياب الكهرباء وتواضع العملية التعليمية الشديد وغيابها ما بعد المرحلة الابتدائية، إلى مشاهدة برامج الأطفال والبرامج التعليمية لتنمية خيالهم وتعليمهم، وكذلك الأمر بالنسبة للراغبين في مشاهدة التلفاز ومتابعة المسلسلات.
سوق مخيم الركبان
وسط مخيم الركبان، وعلى طريق ترابي يزيد طوله عن خمسمئة متر، تتوزع محال تجارية تُبنى من طوب الطين ويعمل أصحابها في تجارة الألبسة ومواد الزينة والمواد التموينية، إضافة لثلاث محلات تختص ببيع الحلويات.
تحدثنا إلى صاحب أحد محال الحلويات، وهو يقول إن المواد اللازمة لصناعة الحلويات تأتي من مناطق سيطرة النظام عبر طرق التهريب، وتُصنع من الفستق السوداني بدلاً من الفستق الحلبي، وبالسمن النباتي. يُباع الكيلو غرام الواحد منها بسبعة آلاف ليرة سورية. من هذه الحلويات عش البلبل، الكول وشكور، البقلاوة، وهناك أيضاً كنافة محشية بسميد وحليب.
كذلك في محلات الألبسة، بحسب فيصل، أحد بائعي الألبسة في مخيم الركبان، تشترى كميات محدودة من الثياب، من أنواع معينة وبأسعار تناسب حياة السكان، لكن الباعة أحياناً يلبّون طلبات الزبائن الذين يطلبون أنواعاً من ماركات وتفصيلات محددة.
يخبرنا فيصل إن كلفة النقل تزيد عن 40 بالمئة من ثمن القطعة، وهو ما يضاعف سعرها، إضافة للبضائع الكاسدة التي لا يمكن إرجاعها إلى مصادرها فيضطرون لبيعها بأثمان رخيصة، دون الكلفة، للحد من خساراتهم.
يتوافر في بعض محلات الألبسة قليل من المصاغ الذهبي، يتم الحصول عليه عبر التهريب من مدينة حمص، لكن الأكثر شيوعاً في الأعراس استخدام «الذهب الروسي» لرخص ثمنه، والحليّ المصنوعة من البلاتين أو الإكسسوارات. يقول أبو عبود، صاحب محل لبيع الألبسة والذهب، إن نسبة من يتوجهون لشراء خاتم الخطبة من الذهب لا يتجاوز 50 بالمئة، وذلك لارتفاع ثمنه، إذ يتراوح سعره بين ستمئة ألف إلى مليون ليرة سورية، بينما يلجأ الشبان لشراء خواتم من البلاتين. ولا تتوفر المقاسات جميعها في المخيم، إذ ينتظر بعض الأشخاص أحياناً أسابيع للحصول على طلبهم، كما يلجأ شبان وفتيات لاستعارة الحلي وقت الأفراح وإعادته بعد الانتهاء منها.
وتتوافر في المخيم أقمشة لتفصيل الألبسة، كما توجد عدة نساء يمتهنَّ الخياطة، وتتوافر الكلف والأزرار وغيرها من المواد اللازمة لصناعتها. تقول أم سعاد (خياطة في المخيم) إن الغالب في لباس فتيات المخيم هي الثياب الطويلة، وإنها تقوم بتفصيلها، كما تعمل الخياطات على إصلاح الثياب القديمة وإعادة تأهيلها لاستخدامها من جديد.
في المخيم أيضاً صالونات حلاقة رجالية، ويتقاضى أصحابها نحو ألفي ليرة سورية على الحلاقة، ومعظم هذه الصالونات بأثاث فقير وأدوات بدائية.
في سوق الركبان يتوافر شيء من كل شيء. يقول من تحدثنا معهم إن المحلات تستطيع تأمين احتياجاتهم، لكن الخيارات قليلة، سواء على مستوى النوع أو الجودة، فالجميع ملزم بالشراء بحسب المتوفر وبالأسعار المفروضة، إذ يغيب التنافس بسبب قلة المحلات وصعوبة وصول البضائع.
المخيم الذي انصهرت مكوناته معاً
لا ينتمي سكان المخيم لمنطقة واحدة، بل أتوا من أماكن تتباين على صعيد اللهجة والعادات والتقاليد وطريقة الحياة والأطعمة. وبحسب تقديرات تقريبية للوضع اليوم، يمثل سكان بلدة مهين بريف حمص نحو 30 بالمئة من النازحين في الركبان، معظم أهلها سابقاً كانوا يعملون في الزراعة وتربية المواشي، ويمثل سكان القريتين بريف حمص نحو 35 بالمئة من نازحي المخيم، سابقاً كانوا يعملون كموظفين في دوائر الدولة أو في الزراعة، وتشكل نسبة سكان مدينة تدمر نحو 25 بالمئة من المخيم، يعمل معظمهم سابقاً كموظفين في دوائر الدولة، وكذلك بالزراعة، وينقسم ما تبقى من سكان المخيم، وهم نحو 10 بالمئة بين ريف الرقة ودير الزور وحلب.
تقول أم عبد الله إن لكل من هذه الأطياف عاداته وتقاليده ولهجته. تبتسم وهي تخبرنا عن تسرّب هذه المفردات إلى الأطفال خلال لعبهم رفقة أصدقائهم من مناطق مختلفة، وتعطينا أمثلة عن ألفاظ لم تكن قد سمعت بها من قبل مثل «اكعشه» (أمسك به) و«أشو هيذ» (ما هذا). تضحك وهي تتذكر المرة الأولى التي وصف أحد أطفالها النار التي أشعلتها بـ«الشعبورة»، كما يطلق عليها أهالي القريتين.
لا يتعلق الأمر بالأطفال فقط، بل كذلك النساء والرجال الذين وجدوا في بعض المفردات ضرورة لإدخالها في لهجتهم. يقول من تحدثنا معهم أن ذلك يأتي في سبيل «الود»، ولأن بعض هذه المفردات تحمل موسيقا تستسيغها الألسن، كذلك تُظهر اهتمام الأشخاص ببعضهم بعضاً.
يقول أبو خالد، أحد وجهاء مدينة تدمر، إن معظم السكان حافظوا على عادات وتقاليد البلد أو العشيرة التي أتَوا منها، لكن هذه العادات بدأت بالتحور لتأخذ شكلاً من العرف الاجتماعي المشترك، وقد فرض ذلك التعامل اليومي، وقرب البيوت من بعضها بعضاً، وحالات المصاهرة، وكذلك أيام الحصار والمصير المشترك.
يظهر هذا الأثر بشكل أكبر لدى النساء، فقد استعيرت المفردات والقصص، وبعض التفاصيل المتعلقة بالأعراس والمناسبات، والعزاء والولادة، والأمثال أيضاً والأغنيات، والأهم من ذلك الأطعمة.
تخبرنا فاطمة أن «فتوكات الكشك المحبش» طبق تدمري لم يكن يعرفه أهل القريتين ومهين، لكنها عرّفت صديقاتها عليه في المخيم بعد أن سكبته لهن واستساغوا طعمه وسألوها عن مكوناته، و«الفتوكات» عبارة عن حمص وفول وفاصولياء وعدس، تُسلَق جميعها بشكل جيد وتضاف إلى الكشك المغلي، مع البرغل وورق الملفوف المقطع والبصل والثوم المهروس والملح والكمون والفلفل الناعم. كذلك طبق «البرمة»، وهو عبارة عن حب القمح المكسور، يوضع معه كمية من البصل واللحم أو الدجاج والبهارات المتنوعة، وتُطبَخ لمدة ساعات على النار وتقدم ساخنة بعد أن يضاف إليها السمن والفستق واللحم الناعم.
وتضيف فاطمة أنها استساغت أيضاً ما يُشتهَر به أهالي القريتين من أطعمة، مثل «المكمور»، المكون من حمص وعدس مسلوق يضاف لهما البصل، ثم يغلى البرغل قليلاً ويعجن ويوضع فوقه الطحين والملح والكمون والفلفل ويحرَّك حتى يتماسك، ثم يقطَّع بشكل كرات ويضاف الحمّص والعدس، ويوضع فوقه دبس بندورة والثوم المقلي.
تخبرنا أم حسن أن النساء يحاولن فيما بينهنّ اختراع أطباق من المواد الغذائية المتوافرة في المخيم، مثل «كبة العدس» و«الفلافل من العدس» وغيرها من الأكلات لتوفير التكاليف.
أمام معظم منازل مخيم الركبان مساكب من الخضراوات البيتية، تعمل ربات المنازل على زراعتها والاستفادة منها، ويتبادل الجيران فيما بينهم ما يزرعونه، بينما تهتم نساء بزراعة الحبق والريحان، وشتلات «قلب عبد الوهاب» لتزيين منازلهنّ.
يحن أبو علاء للعود الذي تركه في القريتين قبل نزوحه منها. يقول إنه كان رفيقه في سهرات الأصحاب والأحبة، ويقول إن الصحراء تزيد من رغبته في العزف ليملأ هذا الصمت بالموسيقا والأغنيات. يخبرنا أنه «عوّاد بلا عود»، وأنه في مكان يحاول أن يبقى على قيد الحياة.