رحلة رغيف الخبز في مخيم الركبان

تُعد صناعة الخبز أول صناعة غذائية في تاريخ البشرية، حملت هذه الصناعة خلال تطورها الكثير من ملامح المجتمعات، وفي بعضها كان الخبز أسير التمايز الطبقي، فخبز الشعير الداكن للفقراء، والأبيض المصنوع من القمح للأغنياء. وعُثر على أقدم رغيف خبز كان قد أعدّ قبل أكثر من ١٤ ألف عام، وذلك في منطقة بشمال شرقي الأردن، في منطقة قريبة إلى حد ما من مخيم الركبان المُقام عند الحدود السورية الأردنية، هذا المخيم ورحلة رغيف الخبز فيه، منذ نشوء المخيم في أواخر عام ٢٠١٤ إلى يومنا هذا، هي ما سنسلط عليه الضوء في تقريرنا.

لم يكن يخطر في بال النازحين في مخيم الركبان أن وصولهم إلى تلك البقعة الصحراوية النائية سيطول، إذ لم يكن موقع المخيم سوى نقطة عبور إلى الأردن، قبل أن يتحول إلى مع إغلاق هذه النقطة إلى مسكن لعشرات آلاف الأشخاص المحاصرين، وتساهم حياتهم القاسية وانعدام المساعدات في تغير حياة السكان وأولوياتهم، إضافة لكونهم ورقة ضغط بيد القوات المحاصرة تجبرهم فيها على العودة والمصالحة، والاعتقال أو الموت أحياناً.

الانتظار الطويل الذي لم ينته بعد بالنسبة لنازحي الركبان تسبب في وضع أولويات، كان الخبز في مقدمتها، وخصوصاً في صحراء لا شجر فيها ولا ثمر.

خُبز أممي

رغيف صغير حلو ولذيذ لكن دون كفاف وشبع، هكذا يصف نازحون في مخيم الركبان أول أرغفة الخبز التي عرفها مخيم الركبان، وكانت تُقدمها الأمم المتحدة، نصيب الفرد الواحد في اليوم كان ثلاثة أرغفة، يوزعها المندوبون المعينون لكل ناحية من المخيم بعد إحصاء أعداد العائلات.

عرف نازحو مخيم الركبان “خبز الأمم المتحدة” ومصدره الأردن كوجبة يومية فقط لأسبوع واحد، ثم تحولت الوجبة اليومية إلى أسبوعية، تضم إلى جانب الخبز مواد غذائية أخرى من تمر وسكر وزيت وأشياء أخرى من بينها تفاحة واحدة، وموزة واحدة.

استمرّ وصول الخبز الأممي منذ نهاية العام 2015، وحتى منتصف العام 2016، مع التفجير الذي طال النقطة الحدودية الأردنية والقرار الصادر بإغلاقها.

الإطاحة بالخبز الأممي

“أبو أحمد” وهو مندوب سابق في تسهيل توزيع الخبز، يقول “كنا نسلم الخبز لكل مسؤول عن عشيرة أو ما يمثلها مما صار لاحقاً أحياء يدل كل منها على المدينة أو البلدة التي جاء منها النازحون، وكان نصيب كل فرد ثلاثة أرغفة”.

لحظة استلام المساعدات الأممية متضمنة الخبز
لحظة استلام المساعدات الأممية متضمنة الخبز

وأكد “أبو أحمد” أن الخبز المقدم من الأمم المتحدة ظل يقدم إلى منتصف عام 2016، حين نفذ تنظيم داعش هجوماً استهدف إحدى نقاط العسكرية الأردنية ما أدى لاحقاً إلى إغلاق الحدود نهائياً في وجه مخيم الركبان لينقطع معه الخبز.

خبز الركبان

بعد توقف وصول الخبز من الأردن عن طريق الأمم المتحدة بدأ نازحو الركبان بالبحث عن بدائل، فرغيف الخبز لا يحتمل التأجيل، وكانت المعضلة الرئيسية تتمثل في توفير مادة الطحين، في ظل ظروف حصار بدأت تظهر ملامحه، وانتشار أفراد من تنظيم داعش والنظام السوري على السواء.

أبو سعيد وهو بائع في مخيم الركبان، يستذكر تلك الصعوبات قائلاً “كنا نسعى إلى توفير الخبز والطحين من مناطق عدة منها الميادين والبوكمال في ريف دير الزور، وكذلك من ريف السويداء الشرقي، وأيضا من ريف دمشق، وظلت عملية التهريب هذه مستمرة ما بين عامي 2017 و2018.

بيع الخبز القادم من خارج المخيم ٢٠١٧
بيع الخبز القادم من خارج المخيم ٢٠١٧

ويصف أبو سعيد عملية التهريب من مناطق تنظيم داعش بأنها كانت مرعبة، ويحكي قصة إلقاء التنظيم القبض على أحد المهربين الذي كان يتجه من البوكمال في ريف دير الزور إلى المخيم، ونفذ التنظيم حكم الإعدام بحق ذلك المهرب، بفصل رأسه عن جسده.

بيعت ربطة الخبز في ذلك الوقت بين 500 إلى 1000 ليرة سورية للخبز القادم من مناطق سيطرة داعش، أما من مناطق نظام الأسد فكان يصل أحياناً الخبز المعروف باسم “السياحي”، بوزن 900 غرام للربطة وبسعر 1500 ليرة. في ذلك الوقت تراوح سعر الدولار مقابل الليرة السورية بين (375 إلى 647 دولاراً، باختلاف الوقت).

توفرت مادة الطحين تدريجياً بعد تفجير عام 2016 قرب مخيم الركبان، ما دفع نازحو المخيم إلى بدء صناعة خبزهم بيدهم، لكن ذلك أيضاً لم يكن يسيراً، لعدم توفر غاز الطهي وندرة الحطب في صحراء الركبان، وثمة تحد آخر، وهو أن كثيراً من النساء لا يجدن العجن والخبز.

أم عمر، إحدى النازحات في المخيم، وكانت تجيد تحضير الخبز تروي تجربتها، تقول: إن البداية كانت من خلال صناعة ما يشبه “صاج” الخبز، وكان إيقاد النار يعتمد على الأوراق والكرتون والأكياس التي يجمعها الأطفال في المخيم ومحيطه، أو على “ببور الكاز” إن توافر الوقود.

وتشرح “أم عمر” طريقة تحضير الخبز ضمن الإمكانيات المتاحة قائلة إن البداية كانت في تأمين وعاء كبير لتخمير العجين فيه لمدة ساعة، ثم تقطيع العجين إلى قطع متساوية، ومدها على راحة اليد، وأخذها يمنى ويسرة إلى أن تمتد بالقدر المطلوب ثم توضع على قطعة قماش تسمى “الكارة” لإعطاء الرغيف شكله النهائي قبل لصقه بالصاج.

صناعة الخبز في المخيم ٢٠١٨
صناعة الخبز في المخيم ٢٠١٨

وتضيف أم عمر، أن قدرتها على خبز كميات زائدة عن حاجتها دفعها لمساعدة جيرانها، وكذلك بدء بيع الخبز في المخيم بما يساعدها على تأمين احتياجات أخرى لعائلتها، وكان رغيف الخبز حينها يُباع بثلاثين ليرة سورية. وتختم “أم عمر” بأن مساعدتها للجيران، أو ما تبيعه لا يكفي بطبيعة الحال للعدد الكبير من النازحين.

تجربة “أم عمر” خاضتها نساء أخريات في المخيم المقسّم إلى أحياء منسوبة إلى المدن والبلدات التي جاء منها النازحون، ففي كل حي كانت هناك بضعة نسوة ينتجن الخبز المعد للبيع إلى الجيران، فعلى سبيل المثال في الحي التدمري كانت هناك ثلاث نساء يعملن على توفير مادة الخبز.

معظم عمل النساء كان يعتمد على تقديم الطحين لهن ليخبزنه بأجور بسيطة، حيث كن يتقاضين ما بين 150و 200 ليرة سوريّة، أو إن توفر لديها الطحين فقد كان يباع رغيف الخبز بعشر ليرات سوريّة.

أول فرن في الركبان

عمل النسوة في تأمين مادة الخبز لم يكن قادراً على تغطية احتياجات المخيم كافة، وهو ما مهد لظهور أول فرن في المخيم. هذا القرار لم يكن عادياً نظراً لظروف المخيم، وخصوصاً أن قاطني المخيم كانوا يعتبرون إقامتهم في المخيم مجرد حالة انتظار مؤقتة.

يحدثنا عن هذه التجربة، أبو خالد، وهو أحد نازحي المخيم، قائلاً إن الهدف الرئيس من بناء الفرن “سد الفراغ”، بعد عزوف المنظمات عن تقديم المساعدات للمخيم، وعدم قدرة النساء اللواتي يخبزن في المخيم على تغطية احتياجات العائلات من الخبز.

وعن بناء الفرن، يقول أبو خالد إن الأمر بدأ في خيمة زُودت بموقديْن اثنين (ببور كاز) ورُبط كل منهما بصاج، في حين كان توفير مادة الطحين عن طريق المحلات التجارية في المخيم التي كانت بدورها تجلب الطحين عبر المهربين من شرقي البلاد وكذلك من ريف دمشق، حيث كان يحتاج الفرن يومياً إلى كيس طحين واحد.

رغم الإمكانيات البسيطة إلا أن الفرن بدأ بتوفير كميات إضافية من الخبز الطازج، وكان الفرن ينتج بداية في كل يوم نحو ألف رغيف بحجم متوسط تسد رمق نحو مئة عائلة، وكان سعر الرغيف الواحد يباع بنحو 35 ليرة سورية.

فرن نصف آلي في الركبان

منتصف عام ٢٠١٧ حمل لنازحي الركبان تطوراً في عملية إنتاج رغيف الخبز، إذ استقدم أحد نازحي المخيم ويُدعى “أبو رائد” فرناً نصف آلي من ريف الرقة، مستقدماً عاملين سابقين في مثل هذه الأفران من ريف حمص الشرقي.

وبعد تجهيز الفرن، زود أبو رائد الفرن بـ 30 طناً من الطحين، وجُرب الفرن لمدة أسبوع، وكان ينتج يومياً نحو ألفي ربطة خبز، سعر الربطة الواحدة مئتي ليرة سوريّة.

ربطة الخبز المنتجة في الفرن نصف الآلي
ربطة الخبز المنتجة في الفرن نصف الآلي

فرن آخر

في ذلك الوقت كان تعداد سكان المخيم نحو سبعين ألفاً، ورغم بناء فرن نصف آلي، واعتماد كثيرين على الخبز المنتج في البيوت إلا أن الاحتياج لم يُغطى بالكامل وهو ما مهد لاستقدام فرن آخر بعد شهرين فقط من بناء الفرن الأول.

بناء الفرنيْن أفرز تحديات جديدة، منها تأمين كميات أكبر من مادة الطحين، وكذلك مادة المازوت، وتأمينها لم يكن هيناً، لأن ما توفره طرق التهريب يظل محدوداً.

بداية عام 2019، اشترى أحد النازحين فرن أبي رائد وأعاد تهيئته للعمل ولا يزال يعمل إلى الآن، إلا أن ربطة الخبز اقتصرت على وجود سبعة أرغفة، بحجم متوسط، ويبرر القائمون على تلك الأفران ارتفاع الأسعار بسبب ارتفاع أسعار المحروقات، وارتفاع أجور العمال وغيرها من الكلف التشغيلية.

خبز التنور
خبز التنور

أما بالنسبة للفرن الثاني فقد اشتراه أحد سكان المخيم في العام 2019، عمل فيه لمدة أسبوعين قبل أن يوقفه عن العمل حتى اللحظة، نظراً للظروف ذاتها من ارتفاع الأسعار وقلة عدد السكان الذين توجه قسم كبير منهم إلى مناطق النظام أو إلى مناطق الشمال الشمالي عبر طرق التهريب.

أبو خالد مرة أخرى

لم يكن بناء أول فرن نصف آلي فأل خير على أبي خالد، وهو صاحب أول فرن تنور، تحدثنا عنه آنفاً، إذ اضطر إلى إغلاق فرنه المتواضع بعد مدة بسيطة من افتتاح الفرن نصف الآلي في ٢٠١٧، بسبب تدني الإقبال على فرن التنور.

أواخر 2020، أعاد أبو خالد تجهيز فرن تنور جديد، هذه المرة بنى الفرن من الحديد، وزوده بحراقات تعمل على مادة المازوت، بهدف رفع إنتاجية الفرن وزيادة جودة رغيف التنور، والذي يفضله كثيرون على خبز الأفران، الآلية منها أو نصف الآلية، وكان رغيف خبز التنور يباع بمئتي ليرة سورية.

كل ما سبق لم يشكل حلاً لجميع العائلات في مخيم الركبان وخصوصاً الأكثر فقراً، وتوضح أم محمد، ربة عائلة في المخيم، قائلة إن لديها عائلة كبيرة وربطة الخبز لا تكفي لوجبة واحدة، وهو ما يضطرها إلى شراء الطحين وخبزه في البيت.

ويؤكد ذلك “عيسى” رب أسرة في الركبان مؤلفة من ١٠ أشخاص، ويزيد أن حتى خيار الحصول على الطحين لم يعد متاحاً أو مستمراً وخصوصا مع ارتفاع سعر كيس الطحين إلى الضعفين، ليصل إلى ٧٠ ألف ليرة سورية.

ويضيف أن ما يقدر على تأمينه من الخبز لا يكفي عائلته ما يدفع أفراد العائلة إلى التعويض عبر التقليل من استهلاك الخبز بتناول الأرز أو البرغل أو أي شيء معه، فعدا عن ذلك لن تشبع العائلة.

تحتاج عائلة مكونة من ثمانية أشخاص إلى أربع ربطات من الخبز وسطياً، يقول أبو عبود أحد السكان المعيلين في الركبان، إذ تحوي ربطة الخبز اليوم سبعة أو ستة أرغفة بحجم صغير، ويحدد نوع الطعام الحاجة الزائدة من الخبز.

وتقول أم سلوى إنها وعائلتها المكونة من أربعة أشخاص تحتاج لربطتي خبز يومياً، وإنها تضطر أحياناً لأن تخبز على الصاج لإطعام عائلتها، إذ تبلغ سعر ربطة الخبز الواحدة ألف ليرة سورية (نحو نصف كيلو غرام) وهو ما يعادل نصف أجر عامل مياومة.

يزيد سعر ربطة الخبز في الركبان عنه في المناطق السورية كافة، ويتسبب بذلك الإتاوات المفروضة للحصول على الطحين الذي وصل سعر الكيس فيه إلى سبعين ألف ليرة سورية، يضاف إليها الكلف التشغيلية، إذ يتراوح سعر لتر المازوت اليوم في المخيم بين 3500 إلى 4500 ليرة، وثمن الخميرة وأكياس النايلون، إضافة لأجرة العمال والربح.

وبمعدل وسطي فإن إنتاج طناً من الخبز يحتاج إلى نحو 600 كيلو غراماً من الطحين، نحو 840 ألف ليرة سورية، و70 لتراً من المازوت، نحو 315 ألف ليرة سورية، وأقل من كيلو غرام واحد من الخميرة بسعر يصل إلى 15 ألف ليرة، وإلى أربعة عمال على الأقل، نحو 40 ألف ليرة سورية، إضافة لنحو 20 ألف ليرة ثمناً للأكياس، لتبلغ كلفة كيلو غرام من الخبز نحو 1230 ليرة سورية، إن استثنينا ثمن الماء والملح والأعطال التي قد تصيب الفرن.تصفّح المقالات

مريم القيصل