القصة الأولى: أم وائل.. مقاتلة لأجل النجاة على جميع الجبهات
ينتزع النازحون في مخيم الركبان أسباب حياتهم واستمرارهم انتزاعا من فم الصحراء، يتفننون رغم المشقة في النجاة، يحاصرون حصارهم فعلا لا قولا، وهي رحلة كفاح تلقي بآثارها الثقيلة على جميع قاطني المخيم، أطفالا ونساء ورجالا، جميعهم شركاء في تلك المقاومة غير المألوفة للفناء والذوبان مع رمال الصحراء، إلا أن النساء يقع على عاتقهن حمل ثقيل، أو ربما الأثقل في البيت وخارجه.
في أزقة المخيم، بين جدران بيوته الطينية، على أطرافه الصحراوية، تكتب نساء المخيم قصص كفاح ملهمة، نسلط الضوء عليها تباعا، وهذه قصة أم وائل:
أم وائل، في العقد الرابع من عمرها، لكن الزمن والتعب والهم حفر أخاديدا في روحها، لديها ثماني بنات، و ابن واحد، إحدى بناتها حصد روحها برميل متفجر استهدف المنزل، وكان بعد ذلك النزوح، ظلت روحها البريئة تحرس البيت وحلم العودة.
جبهة المأوى ..بناء البيت
جاءت أم وائل مع عائلتها إلى مخيم الركبان في مارس آذار عام ٢٠١٦، ووجدوا أنفسهم عالقين محاصرين في هذه البقعة الصحراوية، تقول: بنينا أنا وزوجي وأولادي أول خيمة لنا هنا، وكنت حريصة ورغم أن مقامنا مؤقتا، أن أوسع الخيمة وأقسمها، غرفة للجلوس وأخرى للنوم، المطبخ في أقصى الخيمة، وتضيف: لا يذهب خيالك بعيدا، الخيمة لم تكن واسعة، كنا نصطف مثل “الملفوف” قرب بعضنا البعض حتى يتسع لنا المكان وقت النوم.
لا الصيف كان يرحمنا بدرجات حرارته العالية، ولا الشتاء بصقيعه وعواصفه الغبارية، وبعد سنة تعاونت مع عائلتي وبنينا بيتنا الطيني، واستطردت أم وائل تتحدث عن تفاصيل بناء ذلك البيت، ولم يكن دورها أقل من دور زوجها، عاونته على رصف الطوب الطيني، وذلك فقط في إطار تدعيم الخيمة من الداخل، أي بناء جدران غير مكتملة بديلا عن قماش الخيمة لمنع مياه الامطار من الدخول إلى الخيمة، أو اقتلاعها وقت العواصف.
أحوالنا لم تكن جيدة، ولذلك حين قرر جارنا ترك بيته ومغادرة المخيم أعطى لنا بيته الطيني، كان عبارة عن غرفتين منفصلتين متجاورتين، ونحن بنينا المطبخ، أما الباب فلم يكن سوى من صفيح علب زيت مثبتة على قطع خشبية.
جبهة الطعام
لم يكن تحسين ظروف إقامتنا سهلا، ولم يكن هو التحدي الوحيد، لأن توفير الطعام كان شاقا، ومرعبا في الوقت ذاته، لأن الإنسان يمكن أن ينام في العراء، لكن الجوع قد يفتك به، وتحكي أم وائل أيضا:
لم يكن الخبز الذي نحصل عليه من مندوب المنظمات يكفي العائلة، لذلك تدبرت “صاج” وجهزته لأخبز عليه، لاحقا تطور الأمر وصنعنا موقدنا الخاص، نستخدمه أيضا للتدفئة، أما الوقود فهو ما نجمعه من المخيم، كراتين وبلاستيك وكل ما يمكن أن يحترق.
في المخيم لا توجد فرص عمل كثيرة، وزوجي يبذل أقصى جهده لتوفير الحد الأدنى من المعيشة، يعمل في مجال صناعة اللبن، هذه لم تكن مهنته بالطبع، لكن لا توجد فرص عمل كثيرة هنا، في بعض الأوقات يُرسل لي الأهل مبالغ مالية تكفي فقط لشراء الطحين.
بعد توقف المساعدات في المخيم قبل نحو ثلاث سنوات بات تأمين الطعام معاناة لا توصف، في بعض الأحيان أطبخ الأرز بالماء فقط مع قليل من البهار والملح، معظم الأوقات وجبتنا اليومية هي “الزيت والزعتر”، وأحيانا فقط الزعتر مع الماء. وفي بعض الأيام لا يوجد عندنا سوى الخبز والشاي.
أما اللحوم، فهي لا تزور مائدتنا إلا نادرا، حين يصلني بعض المال من الأهل خارج المخيم، أوفر جزءا منه لشراء القليل من اللحم.
لكن خطر لي أمر ونفذته بعد جهد، اشتريت دجاجتين وديكا، أطعمهم من بقايا طعامنا، نحن لا نرمي شيئا أبدا، ومع الوقت صار يتوفر لدينا البيض.
تسعى أم وائل أيضا في أكثر من جانب، هي أيضا لم توفر زراعة محيط البيت بما يعينها ويوفر لها بعض الخضروات الأساسية، تزرع الورود والبقدونس والنعناع والعجور والباذنجان والسلق والسبانخ، والورد أيضا، توجه إليها ماء المطبخ، فالماء شحيح.
جبهة العطش
للماء أيضا قصة، فهو شحيح في المخيم، يصلنا من الأردن، عند نقطة التوزيع، يجب عليك الانتظار طويلا، وأحيانا تعود بخفي حنين، وفي أحسن الأحوال نحضر نحو ٢٠ ليترا، يجب أن تكفي للشرب، والطبخ والغسيل والاستحمام.
جبهة الرعاية
رعاية عائلة في الركبان مهمة شاقة لكن هذا الشقاء يكون مؤلما، مثلا نسيت الحفاظات لطفلي واستخدم قطعا قماشية، و “البابونج” هو معقم ومطهر، كما أستخدم أيضا الماء والملح.
لا ترف هنا لإلقاء أي شيء، وليس عندنا مثلا ثياب قديمة، أنا مضطرة دائما إلى إصلاح كل ما يتخرب من الثياب والأحذية، وأنسج لهم ثيابا جديدة، أنا معنية بأدق تفاصيل البيت، وموجوداته، وإصلاح كل ما يمكن إصلاحه، باستخدام المعول أو الإبرة.
يرسل لي بعض الأقارب أحيانا صورا تظهر بالصدفة مثلا بيوتهم المرتبة الواسعة، موائدهم، ثياب أولادهم، وهو ما يتسبب بموجة أسئلة واستفسارات من بناتي، هي أسئلة محرجة، فأنا لا أستطيع أن أقدم لعائلتي ما يرونه في الصور، صرت أكره الهاتف.
تنظر إلى ابنتها التي تعاني من ضعف البصر، لا إمكانية في المخيم حتى على معاينتها أو توفير نظارات لها، تكافح كي تقرأ بعض الكلمات.
معاناة أم وائل تركت على وجهها ملامح قهر وتعب، وهي لم تروي سوى غيض من فيض، تصمت في كثير من الأحيان وتتنهد، تحكي بحسرة كيف تزوجت بناتها في أعمار صغيرة، فهنا لا يوجد تعليم بعد الابتدائية، هن سعيدات في زواجهن كما تقول، لكنها تضيف أنها لم تكن تتخيل أن يكون هذا هو مآل العائلة.