يورد معجم المعاني في أحد أبواب معنى الجلاء خروج أخر جندي محتل عن الوطن، ولكنه يبدأ معانيه بالخروج خوفاً من البلدة.
في مخيم الركبان يعيش السكان الجلاء بمفهومه الأخير، حين بات خروجهم من مدنهم وبلداتهم خوفاً من القتل والاعتقال هو المفهوم السائد، بعد أن انزاح المعنى القديم، والذي تصادف ذكراه اليوم، إلى معان أضيق، لا نتشارك فيها، ونقصد السوريون جميعاً، مناسبة واحدة بعد اختلاف الخنادق.
هذه المناسبة، ومثلها مناسبات كثيرة أخرى، كانت أعياداً قبل الثورة السورية فقدت ألقها القديم لصالح مناسبات جديدة، سعيدة أحياناً مثل ذكرى الثورة السورية، وحزينة في أغلب الأحيان تؤرخ “رزنامتها”، أياماً من التهجير القسري، القتل، الحصار، قصف المنازل والمرافق العامة، المستشفيات، المجازر، الاعتقال، والقائمة تطول..
لا نتشارك في هذه المناسبات مع مدن وبلدات مجاورة، ولا مع أشخاص جمعتنا بهم ذاكرة الحي الواحد، أحياناً العائلة الواحدة، وتختلف أيضاً في حجم الأمنيات وشكل المستقبل القادم.
نختلف اليوم، بين منطقة وأخرى، حتى على أسعار الخضراوات والفاكهة، شكل البيوت، المناهج الدراسية، سلطة الأمر الواقع، الطرقات الجديدة، فكيف علينا أن نتفق على أحداث يومية نفرح بها أو نحزن معاً، بعد أن فقدنا شراكة المصير.
ليس مخيم الركبان معزولاً عن محيطه العام، لكنه يعيش حالة سورية فريدة، وحده هذه المرة يعيش محاصراً من مختلف الاتجاهات، الحياة تدخله من ثقوب وبالقطارة، يدخل ما يبقي أشخاصه على استمرار الحياة.
يتشارك المحاصرون هموم رفاق دربهم في مفارق الثورة، يحتفلون معهم بأيامها، يعتصمون عند كل مفصل وانتهاك مع أصدقاء لهم في مختلف مناطق المعارضة، حزنوا لحصار الغوطة وتهجيرها، اختنقوا مع القصف الكيماوي على خان شيخون وريف دمشق وحلب، يئسوا مع مهجري حلب وهم يودعون مدينتهم، غضبوا من ممارسات خاطئة وانتهاكات في الشمال السوري، وتركوا وحدهم في حصارهم..
لا نقصد هنا التقريع أو إلقاء التهم واللوم، لكن، ألسنا شركاء مصير في التاريخ الجديد الذي وثقته آلاف إن لم نقل ملايين الحوادث، كتبه كل من حمل هاتفاً أو كاميرا أو حساباً على وسيلة تواصل اجتماعي، إذن لماذا لا تدخل أحداث الركبان في رزناماتنا جميعاً، كم من الأشخاص يعرفون عن حياة المخيم الذي تناقصت أعداده بفعل الضغط من مئة ألف إلى بضعة آلاف، هل سألنا أنفسنا كيف يمكن الحياة في مخيم صحراوي محاصر، كيف يتعلم الأطفال، كيف يعيشون، بماذا يحلمون، أين يمكن أن يجد أحد الركبانيين علاجاً لزوجة مريضة، وكيف يمكن لسيدة تقف حائرة في الصباح وهي تبحث عن ما يمكن أن يكون وجبة غداء عادية، من البطاطا وحبات من البندورة وعرق أخضر لصناعة صحن سلطة، والأهم من ذلك، هل يمكن أن تجد خبزاً صباح اليوم لفطورك؟
مقابل عيد الجلاء، هناك أعياد أخرى يضيفها سكان الركبان إلى أجنداتهم، دخول أكياس طحين إلى المخيم، دخول علف للحيوانات التي نفقت، يوم مشمس ليس فيه عاصفة غبارية، جهاز أكسجين لطفلة مريضة، إمكانية دخول الطفلة “يقين” والتي كتبت عنها صحف وناشطون للسماح لها بالحياة من جديد، إلى إحدى الدول لإجراء عملية جراحية تمكنها من تناول “الحليب” دون أن تختنق، دخول طبيب إلى المخيم، طبيب من لحم ودم وبسماعات أذن، مدرسة ثانوية لعشرات الأطفال الذين أنهوا المرحلة الابتدائية وتوقفت حياتهم هنا دون طموح بإكمال تحصيلهم العلمي.
تلك مناسبات يراها الأشخاص عادية، لكن وفي الركبان، هي أعياد يمكن أن يحتفل بها أكثر بكثير، من يوم الجلاء، خاصة وأن شعوراً قاسياً بالاحتلال ما يزال يرافق وجودهم اليومي.