في إحدى ليالي أيلول، الشهر الذي يوقع قدومه بداية موسم المكدوس، تجمعت عدة نساء من مخيم الركبان المحاصر على الحدود السورية الأردنية، وراحت كل واحدة منهن تحكي قصتها ومهارتها في صنع المكدوس، بدء من تعلمها حين كنّ في سنوات الشباب، وكيف أصبح لكل منهنّ طريقتها التي تدافع عنها وتفاخر بها أمام جاراتها وصديقاتها.
في الوقت ذاته كانت الغصة حاضرة في أحاديثهن، فالمكدوس أكثر من أكلة شعبية كما أخبرننا، وهو تراث و”بهجة العيلة”، واليوم تحول إمكانية وجوده على مواد الإفطار إلى همّ تحمله النساء في صدورهن والرجال أيضاً الذين يقع على عاتقهم تأمين المال لشراء مكوناته، وسط حالة الفقر والحصار التي يعيشها السكان.
في الركبان عائلات امتنعت هذا العام عن تحضير المكدوس، فإلى جانب إمكانياتهم المتواضعة، قالوا إن هناك ما هو أولى، كتأمين الطحين المنقطع عن المخيّم وضمان وجود القوت اليومي، ودفع أجور نقل المياه إلى منازلهم، وتأمين حطب الشتاء في هذه الصحراء التي لا يرحم مناخها.
نساء روين لشبكة حصار أنهن عقدن العزم على صنع المكدوس رغم أن الميزانية لا تسمح، ما دفعهن لإجراء تعديلات على مكوّناته وتقليل عدد المرطبانات على أرفف المطابخ لضمان حضور الأكلة الشعبية، في حين حافظت بعض العائلات على صنعه كما هو معتاد.
أم محمد، نازحة في مخيم الركبان وأم لخمسة أطفال، تروي لشبكة حصار وهي يشرق وجهها عن قصتها في تحضير المؤونة في قريتها قبل النزوح،”كنت أموّن كلّ شيء، الجبن واللبنة والشنكليش وورق العنب ودبس البندورة والمكدوس”، ساعات من العمل الشاق والممزوجة بالسعادة التي تملأ المنزل قضتها هي وجاراتها خاصة في أيام المكدوس، تخبرنا اليوم أن ضيق حالها منعها من تحضير مؤونتها المعتادة، لكنها لا تريد أن تحرم أطفالها من تذوق “مكدوسها” الذي اعتادوا عليه، لذا قررت صنع “قطرميز واحد”(مرطبان يسع 2 كغ من المكدوس)، بعد أن كانت تجهز سنويّاً قرابة اثني عشر “قطرميز”، أي خمسة وعشرين كيلو غرام مكدوس.
لا تستطيع غالبية عائلات مخيم الركبان تحمل تكاليف المكدوس، نتيجة وضعهم المادي السيء، خاصة أنهم يشترون مواد تحضيره بأسعار تفوق مثيلاتها في مناطق النظام باعتبار أنها تدخل عبر ممرات التهريب، فعائلة من خمسة أشخاص تحتاج لنحو 30كغ باذنجان(سعر الكيلو 3500 ليرة سورية)، و2 كغ دبس فليفلة (سعر الكيلو 3700 ليرة)، و2 كغ من الجوز (سعر الكيلو 50 ألف ليرة، و3 ليتر زيت الزيتون (سعر الليتر 22 ألف ليرة)، وثلاثة رؤوس من الثوم(2000 ليرة)، وكيلو ملح خشن(1000 ليرة)، ناهيك عن ثمن السلق باستعمال الببور الذي يحتاج للمازوت(سعر الليتر 6000 ليرة) أو الغاز، وبالتالي تصل التكلفة إلى ما يقارب 300 ألف ليرة سوريّة، أي ما يعادل أجرة عامل مياومة في المخيم مدّة شهر.
التكلفة المرتفعة دفعت كثيراً من نساء المخيم لتقليل كمية المكدوس، فأم علي كانت تشتري في قريتها نحو 100 كغ باذنجان، ومع النزوح وقلة المردود المادي انخفضت الكميات تدريجيّاً لتكتفي هذا العام بأقل من 10 كغ باذنجان، في حين ذهبت نساء إلى التلاعب بمحتوياته للتخفيف من تكاليفه.
تقول أم عبدو، نازحة في المخيم وأم لثلاثة أطفال، إن الحيرة والحيلة كانت عنوان هذا الموسم، إذ قررت هي وزوجها، بعد دراسة وعمليات حسابية عديدة، شراء نصف كمية الباذنجان مقارنة بالسنة السابقة، كما أدخلت تعديلات على الحشوة، بتقليل كمية دبس الفليفلة، واستبدال الجوز بفستق العبيد(سعر الكيلو 25 ألف) وزيت القطن بدلاً من زيت الزيتون.
تضيف أم عبدو”ما أصنعه اليوم ليس المكدوس على أصولو الذي كنت أصنعه سابقاً، لكن ما باليد حيلة، فزوجي عامل وما يجنيه لا يكفي لسد رمقنا، لدرجة أننا قررنا تأخير موعد تناول المكدوس لإطالة أمد وجوده في الشتاء، علّه يكون “سنداً” غذائياً حين يشتد الحصار وتنقطع المواد الغذائيّة”.
مقابل ذلك، عزفت نساء في المخيم عن صنع المكدوس، واكتفين بشرائه جاهزاً من السوق مثلما فعلت النازحة أم محمود، حيث اشترت 4 كغ مكدوس جاهز (سعر الكيلو 26 ألف)، تقول إنه أوفر ماديّاً من تحضيره في المنزل، تستدرك لتخبرنا أن هذا ليس السبب الحقيقي وراء ذلك، “جميع النساء اللواتي أعرفهن هنا يرغبن بصنع المكدوس ويفرحن بتعبهنّ وأنا منهن، لكن قسوة الحصار والفقر عكر علينا هذه البهجة وطقوس المؤونة التي اشتهت أيدينا لتجهيزها مثل(دبس البندورة الفليفلة والمخللات، والمجففات والمربيات وورق العنب والجبن والشنكليش، فاكتفيت بشراء بضعة كيلوات من السوق، هذه ليست رفاهية، وإن كانت كذلك يغلّفها الحزن”.
يأتي المكدوس الجاهز من مناطق النظام عبر طرق التهريب، إلى جانب ذلك هناك من وجد في موسمه فرصة لتحسين الدخل عبر تحضير كميات كبيرة منه وبيعها بالكيلو في السوق، مثل زوجة أبو حسن، وهو صاحب دكان لبيع المواد الغذائية والمؤونة الجاهزة، يقول إنه يبيع المكدوس بسعر يقارب تكلفة تحضيره إن لم يكن أوفراً، فهو يشتري كميات كبيرة من الباذنجان والفليفلة وزيت دوار الشمس بسعر”الجملة”، وتقوم زوجته بتجهيز دبس الفليفلة بنفسها، وتعتمد على الحطب وكل ما هو قابل للاشتعال في السلق.
يبيع أبو حسن كيلو المكدوس هذا العام بـ 26 ألف ليرة سورية، بينما باعه السنة الماضية بـ 18 ألف ليرة، يرجع ذلك لأن الغلاء قد طال جميع المواد الغذائيّة، وهو ما انعكس أيضاً على شراء النازحين للمكدوس، يضيف” الإقبال ضعيف جداً مقارنة بالسنة الماضية، أصبح المكدوس أكلة تطلب حين تشتهيها العائلة ويتوفّر المال، لا ضيفاً دائماً يزيّن موائد الإفطار”.
غاب مشهد المرطبانات المرتبة عن أرفف المطابخ في بيوت كثيرة في الركبان، قلّ عددها وصغر حجمها، وتضاءل اهتمام النساء بهذا الطقس وتفاخرهن بما يصنعن وما ينقلنه عن أولادهن”مافي أطيب من مكدوسات أمي”، لا لتقصيرهن، إنما أن الفقر والحصار أنساهن أشياء كثيرة، فكيف لمن يبحث عن الطحين أن يفكّر في المكدوس.