“قد لا نزرع من جديد”

مساكب زراعية في مخيم الركبان

شح المياه وارتفاع ثمنها يهدد المساكب الزراعية القليلة في مخيم الركبان

يتجول أبو علي ، نازح في مخيم الركبان المحاصر على الحدود السورية الأردنيّة، بين الأمتار القليلة التي حوّلها إلى مساكب زراعية. يقف فوق إحداها تاركاً لقدميه حرية الحركة بعد أن فرغت من النباتات الخضراء.

“كان الموسم وفيراً العام الفائت، زرعت بالباذنجان عشر مساكب بمساحة 9 أمتار مربعة للمسكبة الواحدة”، صمت لثوان قبل أن يتابع وهو يشير بيده إلى موضع قدميه،”لا مكدوس ولا خضار يوميّة هذه السنة، الماء شحيح، وتكاليف نقله ارتفع لأضعاف، والعواصف الغبارية والحر زادا اليباس يباساً”.

الجفاف يحل مكان المسكبة الزراعية

ترويض الصحراء على الزراعة

يزرع ساكنو الركبان بجوار منازلهم مساكب من الخضار والنباتات، في ظروف أوجدها الحصار”، إذ لا بديل من تطويع الصحراء للزراعة بعد أن فرغت محلات الركبان من الخضار التي منعها النظام عن المخيم عدة مرّات، وبات الحصول على حبة بندورة أو خيار أو عرق أخضر أمراً شبه مستحيل.

قبل أن يفرض النظام حصاره على المخيم منذ خمس سنوات، اقتصرت الزراعة على بعض النباتات في صناديق الفلين والعلب البلاستيكيّة والخشبية، حتى البذور لم تكن موجودة، كنا نجلبها من مناطق النظام، يضيف أبو علي.

تبدو الأمور معقدة في عملية الزراعة داخل مخيم الركبان، فالتربة صحراوية غير صالحة للزراعة، والعواصف الغبارية شكلت، وما زالت تشكل، خطراً يهدد المزروعات ويخيب آمال السكان، والأهم من ذلك أن المياه غير متوفرة، ويدفع السكان المال لجلبها إلى منازلهم.

في مخيم الركبان تحتاج التربة لإعادة تهيئة حتى تصبح صالحة للزراعة، يذكر أبو علي أنه قضى شهراً من التعب والجهد في تجهيز عشر مساكب بجوار منزله، جلب عدة نقلات من تراب الفيضة(منطقة تجمع الأمطار تبعد 2كم عن المخيم)،وخلطه بالتربة الصحراوية بعد أن قام بتقليبها وتهويتها ونزع الحجارة منها، لاحقاً أضاف إليها السماد الطبيعي(روث الحيوانات).

بنى أبو علي سوراً يرتفع إلى متر ونصف المتر ليحمي مزروعاته من العواصف الغباريّة، لكن أكثرها لم ينج. الرياح اقتلعتها من جذورها أو أتلفتها، فالبندورة والخيار والسبانخ مثلاً لديها مقاومة ضعيفة أمام العواصف.

سور طيني كمصد للرياح والعواصف الغبارية لحماية المساكب الزراعية

يخبرنا أنه في البداية نجح بزراعة نبات اليقطين، وبدأت تزحف على جدران منزله، إلى أن أتلفتها عليها إحدى العواصف الغباريّة.

أمّنت النباتات المزروعة في المساكب نوعاً من الاكتفاء الذاتي لعائلات في المخيم، وساهمت في تقليل ما يشترونه من المحلات، في حال توافرت، كما خلقت مكاناً لشرب الشاي تحت الخيمة التي نصبت بجانب المساكب.

الزراعة اقتصرت على عائلات قليلة في المخيم، نتيجة عدم قدرة معظم سكانه على دفع تكاليف نقل المياه، فأجرة عامل مياومة هنا لا تتعدى 10 آلاف ليرة سورية، والمسكبة الواحدة بحجم 10 أمتار مربعة، تحتاج في الصيف لنحو برميل واحد يومياً، تتراوح تكلفة نقله بين 1000 و3000 ليرة سورية حسب بعد المسافة.

وضع أبو علي عدّة الزراعية البدائية(المعول، المجرفة) في إحدى زوايا منزله، وبات همه الوحيد تأمين المال لإيصال مياه الشرب إلى منزله في موجة عطش جديدة شهدها المخيم.

تقليل كميات المياه.. حصار آخر

هذا العام خفّضت اليونيسيف كميات المياه الواصلة إلى المخيم إلى الثلث، تزامن هذا التخفيض مع قدوم فصل الصيف وزيادة معدل الاستهلاك، وقتها أطلقت مناشدات ونداءات استغاثة لزيادة الكمية دون جدوى حتى اللحظة.

ارتفعت معدلات الحرارة صيف هذا العام في مخيم الركبان عن سابقتها في الأعوام السابقة، ووصلت إلى أزيد من 45درجة نهاراً، وكان اللون الأصفر يطغى على نباتات المساكب التي نمت لتوها دون ري باستثناء ما يصلها من مياه الاستخدام المنزلي(الجلي والغسيل).

البندورة والباذنجان والقتة والخيار كانت تشكيلة الخضار المزروعة في مساكب أبو أحمد النازح من مدينة القريتين في ريف حمص، كان يتفقد أبو أحمد منذ غرس البذار والشتلات مزروعاته باستمرار ويوليها عناية شديدة، يقول إن الرعاية والاهتمام كانا سبباً في نجاح مزروعاته ووجود خضار ذات مذاق طيب على مائدته، على حد قوله، إلى أن مات قسم كبير منها لانقطاع المياه عنها.

مزارع يتفقد شتلة الباذنجان ضمن مسكبته

تضخ اليونيسيف المياه من الأردن إلى نقطتين بجوار المخيم، الأولى هي النقطة الغربيّة وتبعد عن المخيّم نحو 5 كم، وتنقل مياهها لسكانه عبر الصهاريج، وتحوي أربعة خزانات سعة الواحد منها نحو 60000 لتر(300 برميل)، غالباً ما توجد المياه في واحد منها ولساعة فقط يومياً، ما يجبر أصحاب الآليات على المكوث لأيام لتعبئة صهاريجهم.

أمّا النقطة الثانية فهي مجاورة للمخيّم، يستفيد منها أصحاب المنازل القريبة منها ويحصلون على مياهها عبر “الطنابر” والعربات الصغيرة.

“إما أن نشرب نحن أو المزروعات، فالكميات قليلة والحصول عليها يحتاج لأيام”، يتحدث أبو أحمد عن ساعات انتظار وليال قضاها في العراء لحين اكتمال تعبئة خزانه المحمل على جرار زراعي.

تقلص حجم المساحة المزروعة في محيط منزل أبو أحمد إلى الثلث، يبست شتلات البندورة والخيار، وصار وجودها يقتصر على شرائها من المحلات بأسعار تفوق مثيلاتها في مناطق النظام، وبقي قليل من الباذنجان والكوسا.

مساكب زراعية مهددة بالجفاف

عززت الأزمة الحاجة لكل قطرة مياه، لأجل ذلك حفرت أم عبدالله شبكة صغيرة من السواقي التي حملت مياهاً تستعملها في الغسيل والجلي والتنظيف إلى نباتاتها، واستعملت المجرفة لإحداث بركة صغيرة تحت كل شجرة لإشباعها بالمياه دون هدر قطرة منها.

لحسن حظّها يمتلك زوجها “طنبراً” يوفّر عليها أجرة نقل المياه، إلا أنها لا تملك رفاهية هدرها، أخيراً ثقبت “مرطبان” نايلون فارغ من الأسفل وبدأت تسقي النباتات به تقليداً لمبدأ الري بالتنقيط.

نجت عدة مزروعات بسبب حملة “أنقذوا مخيم الركبان”، والتي دعا إليها ناشطون وصحفيون ووسائل إعلامية لإيجاد حل جذري للمخيم وإنهاء مأساة سكانه، إذ جلبت عدة منظمات إغاثية المياه من آبار بعيدة عن المخيّم(نحو 20 كم)، إلا أن هذا لم يستمر ما أدى لموت قسم كبير من نباتات المساكب.

اقتصار المساكب الزراعية عل بضعة أمتار

وجود مياه الآبار ليس حلاً في متناول أهالي المخيم، فتكلفة نقلة صهريج واحد(سعته 15 ألف ليتر) يبلغ 75 دولاراً، وهذا يفوق قدرات النازحين المادية البسيطة كما أخبرونا.

هذا العام منع الحصار وصول الخضار إلى أهالي المخيم أكثر من مرة، بقيت المحلات أياماً وأسابيع خالية من عرق أخضر، سمح، ذات مرة، بإدخال ثوم وبصل وبطاطا علفية، وقتها مثلت ما تنتجه تلك المزروعات سنداً غذائياً للنازحين، ولو بوجبة أو اثنتين أسبوعيّاً، حتى أولئك الذين لم يزرعوا وجدوا من يبيعهم من فائض منتوجه، يقول من تحدثنا معهم إنّ أزمة المياه أشعرتهم باليأس والإحباط، وسط عجزهم عن فعل أي شيء سوى المناشدة واجتراح حلول بسيطة ليؤمّنوا بالحد الأدنى ما يسد رمقهم.