انهار جسد الطفلة الصغيرة يقين بعد تسعة أشهر من المقاومة حاولت خلالهما منحنا، وأقصد بـ “نا” هنا، كل من وصلت إليه قصة الطفلة من ناشطين ووسائل إعلام ومنظمات محلية وعربية ودولية، الأمم المتحدة والمملكة الأردنية، قطر، التحالف الدولي إلى آخر هذه القائمة التي لا تنتهي يوماً، والتي اعتدنا في كل مرة تحميلها المسؤولية، حاولت منحنا جميعاً فرصة لإثبات قدرتنا على فعل شيء، أي شيء، يمكن من خلاله استعادة الثقة ومفهوم الجدوى مما نقوم به، والأهم من ذلك مراجعة أنفسنا إن كنا لا نستطيع الوقوف إلى جانب طفلة رضيعة بحقها في الحياة والرضاعة، فماذا لا نعترف بفشلنا وعجزنا ونكتب حقيقة ما حدث؟
في هذا التقرير سنحاول أن نكتب الحقيقة دون أي مساحيق تجميل، دون أن نلتزم بالقواعد الصحفية، سنغير المصطلحات والمسميات، سنبتعد عن التنصل، فمن حق يقين علينا أن نروي قصتها/نا.
قُتلت الطفلة يقين ذات الأشهر التسعة، بعد تفاقم حالتها الصحية التي رافقتها منذ الولادة، قصر في اللسان وفتحة في الحلق وضيق في التنفس رافقا الطفلة منذ يومها الأول ما حرمها من الرضاعة الطبيعة بمشكلات تنفسية تسبب أخيراً بموتها.
هذه هي الحقيقة، لكن تفاصيل الأشهر التسعة غائبة عن الحقيقة، ولنقل ما حدث علينا أن نعيش يوماً مع يقين وعائلتها، علينا أن نفهم طبيعة الحياة في مخيم الركبان، أن نناقش مفهوم الحصار مادياً ومعنوياً، أن نتدخل في معرفة أسباب هذا الموت، قبل أن نتوجه إلى الحوقلة والدعاء.
في مثلث صحراوي على الحدود السورية الأردنية العراقية، يعيش مجتمع كامل من السويين الذين وجدوا أنفسهم في المكان دون إرادة منهم، نقطة عبور تحولت بفعل الحرب وإغلاق الطرق نحو الأردن إلى تجمع سكاني ثم إلى مخيم، زادت أعداده وتناقصت بمرور السنوات الأخيرة، وصلت الأعداد في سنوات ما قبل الحصار الأخير الذي بدأ في عام 2017، إلى ما يزيد عن 45 ألف شخص، اليوم يعيش في المخيم نحو سبعة آلاف إنسان.
في مخيم الركبان سكان يعيشون يومهم، هم يشبهوننا جميعاً، تخيلوا ذلك! يحبون ويتزوجون وينجبون الأطفال، ويحبون أطفالهم أيضاَ، هناك في المخيم مهنيون وصحفيون ومدرسون وممرضون ومقاتلون أيضاَ، وفي المخيم ربات منازل يزرعن الورد ورجال يرممون منازل من طوب وطين، وفي المخيم أيضاَ مشاكل يومية وغيرة وحسد واتهامات وخلافات شخصية وانقسامات مناطقية وسياسية.
يشبه المخيم النسيج السوري ويختلف عنه، يشبهه بكل مصائبه وجمالياته، ويختلف عنه بوجهة نظرنا حيال ذلك واستعدادنا لنقل هذا المجتمع من حدث صحفي وأخبار متناثرة هنا وهناك، جميعها تستوجب التعاطف، إلى خانة الإحساس والاشتباك معهم. النظر إلى البيت الطيني لا كمعجزة متمثلة بقصة نجاح سوريين محاصرين ولكن كبيوت لا تصلح للحياة تغيب عنها الخدمات وتحتاج للترميم بعد كل عاصفة غبارية، النظر إلى مقاعد الطين في المدارس لا كلوحة جميلة يمكن تناقلها والحديث عنها وإدراجها في تقارير إخبارية عن السوري الخارق الذي يستطيع تطويع الصحراء وملاطها ولكن كمقاعد باردة في الشتاء شديدة الحرارة في الطيف، يستخدم فيها الطالب إحدى يديه لحمل الدفتر والأخرى للكتابة، هذا إن توفر ما يكتب عليه، في ظل غياب أي مستقبل قادم لهؤلاء الأطفال، الذين حكماً يتحولون، بعد إنهاء الصف الخامس آخر المراحل التعليمية في المخيم، يتحولون إلى ناقلي مياه أو عاملين في ورش الطوب والطين، أو أن ينتظموا في الفصائل المقاتلة فيما بعد، أما حظ الفتيات، فيكون الزواج في عمر مبكر وإنجاب أطفال جدد للمصير ذاته.
الأمثلة كثيرة حول تحديد زاوية الرؤية اليوم تجاه المكان هناك، فمساكب الخضار على سبيل المثال ليست مثالاً ناجحاً عن زراعة الرمال في الصحراء، هي مثال أوضح عن تجارب فاشلة سنوياً من خضار ميته تستهلك ما تبقى من أمل في صدور العائلات أملاً في تأمين وجبة لبضعة أيام.
هل علينا أن نجلدهم إذن، هل سنقول لهم هذه الحقيقة، هم يعرفونها جيداً ويتواطؤون مع ظروفهم ليكملوا ما فرض عليهم، وفي كل مرّة يحاولون البحث عن نجاة من ثقب إبرة نفتحها لهم نحن، يعاد إغلاقها لتبدأ رحلتهم في التعايش من جديد مع ما يواجهونه يومياً.
يقين
مصادفة حملت الطفلة الشهيدة اسماً يعنينا في مخيالنا السوري، هو اعتقاد راسخ وثقة تامة بأمر واقع لا محالة، ما الذي كانت تقتنع به تلك الطفلة الصغيرة خلال الأشهر التسعة التي عاشتها بيننا، كان اسمها يوحي بموتنا، وهو أمر واقع لا محالة، ويحق لنا أن نلمسه بأيدينا، ذلك حق اليقين التي أرادت لنا أن نعرفه.
منذ ولادة الطفلة يقين طرقت باب النقطة الطبية للتحالف الدولي الموجودة بالقرب من المخيم، أجريت لها عملية تحرير لسان يدوية، وتركت وحيدة لتواجه ما تبقى من مشكلات صحية ولدت معها، ليس بالإمكان أكثر من ذلك، فعلنا كل ما نستطيع.
هذا الترك والعملية الإسعافية يتطابق إلى حد كبير مع وجود التحالف الدولي بقيادة أمريكية في سوريا، ما الذي يفعله هنا، ما هو دوره، كيف يمكن استنتاج ما يمكن أن يحدث وما الذي ينوي فعله لاحقاً؟
دور التحالف في سوريا، وخلال سنوات الثورة السورية، يصب في مصالح ضيقة محددة، لا يمكن أن نقول على سبيل المثال، وبعد سنوات من الثورة، أن هذا الدور يتمثل في تحقيق العدالة أو الوقوف إلى جانب الضحية، يؤكد ذلك مئات آلاف القتلى في سوريا دون أن يهتز للعالم جفن، المجازر المرتكبة بمختلف أنواع الأسلحة المحرمة دولياً وغير المحرمة.
هي عملية تحرير لسان إذن، والنظر من بعيد إلى قدرة السوري على المقاومة قبل أن ينهار جسده، هذا الانهيار كان مادياً في حالة الطفلة التي فارقت الحياة، ومعنوياً ومادياً بآن معاً في مختلف مناطق الثورة السورية اليوم التي وصلت معاناتها إلى أقصى حد ممكن وفي مختلف الفصول، خيام، جوع، معابر مغلقة، مرض، أوبئة، قتل، اختفاء قسري، سجون، معتقلات، جفاف، عطش، تحطيب للأشجار، قتال داخلي، نزوح ونزوح، لجوء، برد، تدفئة، حرارة، مواسم، غلاء أسعار، تسول..
في واحد من المستوصفين الوحيدين في مخيم الركبان، ودون أطباء، عاشت الطفلة يقين جلّ أيامها، تبحث عن جرة أوكسجين أو جهاز إرزاز، دون القدرة على إيجاد حل داخل المكان الذي يفتقد لأي أجهزة طبية إضافة لغياب الأطباء بشكل كامل.
كانت الطفلة تحاول، خلال حياتها، الحصول على حقها في التنفس، تناقصت أكسجتها لدرجة مخيفة وصلت إلى 30 ٪، الطبيعي أن يتراوح بين 75 إلى 100٪، الحق في التنفس ويعني الحياة، المكفول بقوانين الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، المكفول أيضاً ضمن كل التشريعات الدينية والأخلاقية، تكفله أيضاً أخلاقنا وتعاطفنا وإحساسنا بالمسؤولية، أبسط الحقوق وأكثرها طبيعية، هذا الحق غاب عن يقين كما يغيب عن أطفال كثر في المخيم المحاصر. لا يمكن لأحد هذه الجهات أن يقول إنه لم يكن يعرف، جميعهم كانوا يعرفون، الخطابات وصلت إلى مختلف الجهات المسؤولة، طلبوا لأجل ذلك تقارير واضحة عن حياة الطفلة، صوراً لها، فيديوهات للحظات قاسية باستجرار النفس بصعوبة، لا أعرف إن شاهدوها، وإن كان كذلك ما الذي شعروا به وكيف يستطيعون النوم اليوم، أو ربما تمتعوا بهذا المشهد الذي يتكرر في الحالة السورية حتى غدا اعتيادياً، نعم أصبح موتنا حالة طبيعية وحياتنا ما يشبه المعجزة.
من الطلبات القاسية علينا، وهم الذين يدركون جيداً حال المخيم خلال السنوات الماضية أن يطلب من يقين وثيقة رسمية، تقرير طبي، من عائلتها أيضاً وثائق تثبت وجودهم. تقرير طبي وأوراق بأختام رسمية في صحراء يبحث المحاصرون فيها عن مياه للشرب، تلك معادلة لا يمكن شرحها لهم مراراً، التجارب المشابهة في مناطق أكثر حظاً، يمكن للسوريين في مناطق المعارضة الحصول على وثائق، لكنها أيضاً غير رسمية، من الذي يعترف ببطاقة شخصية صادرة عن الحكومتين المؤقتة والإنقاذ، هل يسمح جواز السفر الصادر عن الائتلاف، منذ سنوات، والذي لم يعد له وجود اليوم، بالمرور عبر حدود أي دولة، طبعاً لا يمكن ذلك، هي أوراق يعتمد عليها فقط في نطاق الحصار المفروض ولا تساوي الحبر الذي تستهلكه، المخيم باعتباره قارة جديدة لم تكتشف بعد ولا يعترف به حتى من حكومات لا تسمن ولا تغني من جوع لا يدخل في باب الحصول على أوراق لا تساوي حبرها أيضاً.
الإنسانية لا تحتاج إلى جواز سفر، لم تكن يقين تحتاج سوى إلى قرار إنساني، يقول احملوا الطفلة إلى مستشفى ثم بعد ذلك أعيدوها إلى القارة التي لا تبعد عن الحدود الأردنية أكثر من مئات الأمتار وعن قاعدة التحالف الأمريكي أكثر من كيلو مترات، في حدود المخيم/ القارة قوات للنظام من ثلاث جهات وتلك حكاية أخرى سنخبركم بها.
إن أخذت القرار بالذهاب إلى النظام، عليك أن تقطع رحلة ذهاب دون إياب، بالتنسيق مع الأمم المتحدة يمكن أن تجري مصالحة مع القوات المنتشرة هناك بضمان روسي وأممي، تنقل الطفلة إلى مستشفى، مات في الطريق مرضى كثر، اعتقل آخرون، زج بشبان مرضى في الخدمة الإلزامية ليحاصروا هم أنفسهم أهلهم من جديد، صاحب الحظ فيهم من يحولونه إلى مركز إيواء، قبل أن يسمحوا له بعد موافقات أمنية كثيرة بالخروج، بموجب هذا القرار يمكنك التنقل في سوريا النظام دون العودة إلى المخيم، حيث أهلك وذويك.
أن تلجأ إلى محاصريك وقاتليك، هو ما يريده النظام للتشفي، يحاول منذ سنوات فعل ذلك، ويستخدم آلاف السكان ورقة سياسية جديدة، يقول فيها، إنه انتصر على الإرهاب، ها هي ذي طفلة بتسعة أشهر تترك الإرهاب وتعود لحضن الوطن بعد ما فعلته، الوطن/ بشار الأسد/ ميليشيات إيرانية/ رسيا بوتين/ دفاع وطني/ قوى أمنية والقائمة هنا تطول.
جميع من تحدثنا معهم، بحالة الطفلة يقين، حملات المناصرة، التغريدات والفيديوهات والأخبار التي رافقت حالة الطفلة لأشهر، كل ذلك كان مضيعة للوقت أيضاً. طلب خلالها الكثير من المحتوى البصري لتوثيق حياة المخيم، ما الذي ينفعه ذلك إن لم يشكل رأياً عاماً ضاغطاً. في الوقت الذي كانت فيه يقين تحاول النجاة وحدها كانت اجتماعات دولية ومجتمعون يتحدثون عن المخيم لمرة أولى منذ سنوات، قالوا إنه يجب علينا أن نجد حلّاً، النظام قال إن المخيم يحاصره التحالف ومن يدور في فلك أمريكا، الأمريكيون قالوا إن المخيم محاصر بقوات النظام وإيران وروسيا، حكومتنا المؤقتة وائتلافنا أصدروا بياناً، دون أن يحركوا ساكناً، الإنقاذ لا يعنيها الأمر، هي حاكمة بأمره فوق أراضيها التي تتوسع أفقياً على حساب المؤقتة فقط، دون الخوض في التفاصيل.
لم يأت هذا المقال بجديد، في كل عائلة سورية اليوم، يقين. يقين يأسنا وحصارنا وثورتنا اليتيمة، أبناؤها الأيتام ومسؤولوها المتهالكون، يقين حالة الاعتياد على الموت، يقين أطفال دون تعليم ومصير مجهول، يقين مستشفيات ستتوقف إن لم تتلقى الدعم، يقين مياه غير صالحة للشرب، يقين مخيمات من القماش وطوب الطين وكتل سكنية تبنى على عجل لعيش مؤقت، يقين رغيف الخبز الذي تضاعف سعره، يقين وجه الطغاة والحكام والمسؤولين المليء بالدماء، يقين الأمم المتحدة وقراراتها الكاذبة، اليونيسيف وسياسة الكيل بمكاييل متعددة، يقين سوريتنا التي حدث يوماً أن فكّرت بالنجاة فضيقوا الأكسجين عليها وتركوها لتموت مختنقة.