![](https://hesar.net/wp-content/uploads/2023/01/مادة-الطرق-الطينية-1024x670.jpeg)
الطين يحيط بك من كل جانب، ومع كل هطول مطري يبدأ كل شيء بالتآكل، البيوت الطينية، المحال التجارية الطينية، الطرق الطينية غير المزفتة ولا المحصاة. يعلق سكان مخيم الركبان شتاء في الطين الذي لا يغادر حياتهم منذ سنوات، وصيفاً بعواصف غبارية رملية تحمل الرمال إلى كل ما يحيط بهم، الرمال هي الأخرى تتحول إلى طين في تعاقب الفصول الذي يعيشونه.
![](https://hesar.net/wp-content/uploads/2023/01/مادة-الطرق-الطينية.jpeg2_-1024x670.jpeg)
هذا الفتق أكبر من أن يرتق، ويبتلع معه أحلام الصغار بالوصول إلى مدارسهم الطينية هي الأخرى، من يستطيع الوصول منهم ملطخاً بالماء والطين سيغيب عن الحضور لأيام لاحقة بسبب المرض ونوبات الكريب والانفلونزا، أو لأنه لا يملك ثياباً أخرى يصل بها إلى المدرسة التي تغلق أبوابها بعد المرحلة الابتدائية، والأقل حظاً من يعود من منتصف الطريق بكسر في يده أو ساقه أو فاقداً لأحد أسنانه بعد أن تفشل محاولة المشي كطائر بين برك المياه والوحل التي تشكلت في الطرقات.
طرق المخيم الترابية غير مستوية أيضاً، تجمع زواياها المياه ويحبسها غياب أي مصارف، يصبح الوصول إلى المدرسة عملية تحتاج للكثير من المجازفة، في حين تتوقف وسائل النقل الأكثر وجوداً (الدراجات النارية) عن دورها في تلبية احتياجات السكان للوصول إلى أماكنهم.
تخبرنا أم سليم، أم لثلاثة طلاب في واحدة من مدارس مخيم الركبان إنها تخاف على أطفالها السقوط في الوحل وما يتبع ذلك من عواقب، تقول إن أطفالها مجدون، يحبون مدرستهم، ولا يرغبون في البقاء داخل المنزل في الوقت الذي يجب عليهم الوجود في مدارسهم، لكنها تنتظر جفاف الطرقات للسماح لهم بالخروج.
نعمة الصحراء بأمطارها القليلة في مخيم الركبان تنقذ أياماً من رزنامة الدوام المدرسي، هذا العام كانت حصة البادية السورية أكبر من مثيلاتها في الأعوام السابقة، ويحار السكان بين رفع أيديهم للدعاء بسقوط المطر علّ شتلاتهم القليلة المتوزعة في مساكب من رمل تشق طريقها إلى الحياة، وبين إسبالها خوفاً على مستقبل أبنائهم والطوب الطيني الذي يشكل منازلهم.
في طابور ليس للمرح، تسير أسماء، معلمة في واحدة من مدارس مخيم الركبان رفقة ابنتها، في الطريق تنضم إليهما طالبات وطلاب في المدرسة، يمشون واحداً تلو الآخر، يختارون لأقدامهم أماكن ارتفعت في الشارع بعد أن حولت الأمطار محيطها إلى ما يشبه الحفرة المغمورة بالمياه، يطلقون عليها اسم “الباطوس”، يبحثون عن موطئ قدم جاف، ويدورون حول السيارات التي تقطع الطريق. يمسك الأطفال بيد معلمتهم وبثيابها، وبأيدي بعضهم البعض بقوة، خوفاً من السقوط، وكأنهم يسيرون على حافة منحدر، يستمر ذلك الشعور بالخوف حتى الوصول إلى المدرسة، بعد ساعات قليلة هناك طابور آخر يتجه نحو رحلة العودة.
![](https://hesar.net/wp-content/uploads/2023/01/مادة-الطرق-الطينية.jpeg1_-1024x670.jpeg)
يملك ياسين، تلميذ في الصف الثاني الابتدائي، حذاء بلاستيكياً بساق طويلة (جزمة)، يخوض به عباب الطرقات الموحلة، تقوم والدته بدور المعلمة أسماء في إيصاله، في الوقت الذي تخشى دراجة والده النارية القيام بدورها الذي فعلته لأشهر طويلة في إيصاله إلى المدرسة.
لم يحصل الطفل على حذائه البلاستيكي دون خسائر، ففي منتصف طريق المدرسة قبل أيام انزلقت قدماه، غطى الوحل وجهه وثيابه، كسرت أسنانه الأمامية وجرحت يديه، يخبرنا بطفولة وبأسنان لم تنبت من جديد إن أمع غيرت ملابسه، سخّنت الماء لاستحمامه بعد أن أشعلت المدفأة ببقايا “كراتين”.
يحاول الأهالي اجتراح حلول فردية، يوزعون بقايا حصى أمام منازلهم لتبدأ رياضة القفز عليها، لكن ذلك لم يشكل فارقاً بعد أن أغلقت مدارس أبوابها إثر عاصفة مطرية، وغاب طلاب كثر بعد فتح صفوفهم من جديد.
لا منظمات تنظر إلى مخيم الركبان بعين الحق أو الواجب والإنسانية، رغم ما تنص عليه قوانين الأمم المتحدة والقوانين الداخلية للمنظمات الإنسانية التي تعنى بالطفل وحقه في الحياة والتعلم والغذاء، كأقل ما يمكن أن تقدمه في اختبار ما يحدث أمام نظرها ومعرفتها به ومناشده السكان لإيجاد حل لأبنائهم. أبناؤهم الذين كسرت أحلامهم بإكمال تحصيلهم اليومي ومتابعة دراستهم الإعدادية والثانوية والوصول إلى الجامعة، لسان الحال اليوم يقول فلتكن معرفة بالقراءة والحساب، وليكن الوصول إليها على طرق من حصى.