الحياة مع الطين

قبل عقدٍ من الآن، كان هذا المكان الذي يعرف اليوم بمخيّم الركبان، منطقة صحراوية نائية وقاحلة، لا يأتي على ذكرها أحد، وجد فيها سوريون من أبناء مدينة حمص وريفها ثغرة للعبور إلى الأردن، هرباً من هجوم قوات النظام على مناطقهم.

كان أول مأوى للنازحين، شوادر مثبّتة على أعمدة من الخشب، وزعتها الأمم المتّحدة على الموجودين الذين طال انتظارهم وتضاعفت أعدادهم بعد تمدّد تنظيم داعش في أرياف حلب والرقّة ودير الزور.

أدى الانتظار الطويل وبطء عملية دخول العائلات إلى الأردن إلى تشكّل ملامح مخيّم، استبدلت الشوادر بخيام ثابتة في الأرض في انتظار العبور إلى الأردن.

في منتصف 2016، حدث ما لم يكن بالحسبان، أغلقت الأردن حدودها، آلاف النازحين استسلموا لفكرة البقاء في هذا المكان الصحراوي الذي لا يرحم، وكان لا بدّ من استبدال الخيمة التي لا تقي حرّ الصيف وبرد الشتاء، وتترنّح كالأرجوحة أثناء العواصف الغباريّة والمطريّة، لم يكن أمام الركبانيين الجدد سوى التراب، خلطوه بالماء، وتعلّموا صناعة ما يشبه البلوك، وبنوا بيوتاً من طين، امتدّت على طول سبع كيلو مترات.

أبو زهراء التدمري، هو اليوم بنّاء في المخيّم، صنع أول طوبة من الطين منذ خمس سنوات، عجن الرمل بالمياه ووضعها في صناديق من البلاستيك والفلين، تركها حتى تجف، بهذا حصل على الطوب الذي سيستعمله في البناء.

استعمل، لاحقاً، أبو زهراء القوالب الخشبية للحصول على طوبٍ أكثر عدداً واتساقاً من قوالب البلاستيك والفلين، ومع دخول الحديد للمخيم، صار هناك قوالب حديدية، يصنعها الحدّاد حسب رغبة البنّاء، تصلح لصبّ طوبتين وثلاث وأربع.

يحصل أبو زهراء على المياه من مناطق تجمع الأمطار، ومن الخزّانات التي تصلها المياه من الأردن، يخلط الرمل، بعد نزع الحجارة والشوائب منه، بالمياه، ويضعها في القوالب الحديدية المقطّع حسب عدد الطوب، ويكبس الطين ليأخذ شكل القالب، بعد دقائق، يرفع القالب ويترك الطين حتى يجف تحت أشعة الشمس لأيام، يبيع الطوبة بثلاثمئة ليرة سوريّة، ويتقاضى ستة آلاف ليرة مقابل كل متر بناء.

في ورشة أبو زهراء للبناء، يقوم عماله بتحديد قطعة الأرض التي سيبنون عليها المنزل، يحفرون أساساته بعمق لا يتجاوز ثلاثين سنتيمتراً، ويرصفون حفرة الأساس بالحجارة والطين المدعّم بالقش أو التبن، وصولاً إلى بناء الصف الأول من البلوك الطيني فوق الأرض، ثم يترك يوماً كاملاً حتى يجف، ثم يعاودون بناء الجدران.

يختلف ارتفاع الجدران بين منزل وآخر، أغلبها أقل من مترين ونصف كي تستطيع مقاومة العواصف الغباريّة، أما الأسقف فغالباً ما تكون دعامات خشبية توضع فوقها شوادر من النايلون والبطانيّات، والأوفر حظاً من يضع الطين فوقها لمنع تسرّب المياه إلى داخل المنزل.

يستعمل عمال الورشة عجينة الطين في كساء الجدران من الداخل والخارج، قلّة ممن لديهم قدرات مادية جيدة كسوا جدران منازلهم بمادة الإسمنت التي تدخل المخيم عبر طرق التهريب وتباع بأسعار غالية، ومنهم من قام بطلائها بالحوّارة أو الكلس من الداخل لتحسين مظهرها والتخلص من لون الرمل.

مع طول المقام، وفقدان الأمل بالعبور أو العودة بعد حصار النظام للمخيّم، راح عدد من السكان إلى إضافة لمسات جديدة في بيوتهم، يحاكون بها تراث البيوت الطينية التي عاش بها أجدادهم في القرن الماضي وما سبقه.

وجدت “الدكّة” في بعض البيوت، وهي كرسي طيني يرتفع نحو خمسين سنتيمتر عن الأرض، بطول وعرض نحو سبعين سنتيمتر، يستخدمها كبار السن للجلوس وللصلاة.

بالإضافة إلى “الكوّة” وهي فتحة تصنع في الجدار بعمق عشرين سنتيمتر، وبالعرض ذاته، وبارتفاع يصل إلى أربعين سنتيمتر، غالباً ما يوضع بها مصباح أو بعض الكتب أو حاجيات أخرى.

والأهم مما سبق، كان لا بدّ من وضع “الحذوة” وهي خليط من الحجارة والطين، ترصف أسفل الجدار من الخارج، بغرض حماية البيت من الملوحة الأرضيّة، وتدفّق مياه الأمطار

تمنح البيوت الطينية حرارة في الشتاء وبرودة في الصيف، هي اليوم مأوى لغالبية سكان المخيم، أفضل بكثير من تعاسة العيش في خيمة، وأقل راحة ورفاهية من بيوتهم المبنية من الحجر والإسمنت.

طبيعة التربة الصحراوية في الركبان تقلل من متانة بيوته، فصيانتها أمر لا بدّ منه، إذ ترمّم البيوت بذات المواد التي تبنى منها، طين فوق طين، خاصّة أن منها بني بدون أساسات عوضاً عن الخيام، لاعتقاد سكّانها أن بقائهم في المخيم مؤقت وليس دائماً.

لا يتوقّف البناء في الركبان، فالبيوت لا تصمد أمام العواصف الغبارية والمطريّة، يجبر أصحابها على ترميمها مرتين على الأقل سنويّاً، هذا خيارهم الوحيد، يتحملون وحدهم تكلفة الترميم، يصنعون الطوب ويعاودون البناء من جديد.