ارتفعت، في الأيام الماضية، نسبة المصابين بالتسمّم وسوء التغذية في مخيم الركبان عند الحدود السورية الأردنية، خاصة لدى الأطفال، بسبب النقص الحاد في الغذاء، وفي مقدمته مادة الخبز المفقودة منذ أزيد من شهرين بعد منع قوات النظام وصول الطحين إلى المخيّم.
تقول أم محمود، ممرضة في مستشفى شام الطبي، لشبكة حصار “عادةً ما يكون هناك حالات تسمم وسوء تغذية في الركبان، إذ لا يحصل النازحون على طعامهم الصحي نتيجة الحصار والفقر وغياب المساعدات الغذائيّة، لكن موجة التسمم وحالات سوء التغذية الأخيرة طالت أعداداً كبيرة من السكان، بعد أن شكل الخبز اليابس بديلاً عن الخبز المفقود للبقاء على قيد الحياة وطعام غير صحي سبّب حالات تسمم وأمراض معديّة في الوقت ذاته”.
وأضافت أم محمود أن غالبية مرضى سوء التغذية هم من الأطفال، إذ يراجع المستشفى يوميّاً عشرة أطفال على الأقل يشتكون من الإسهال الحاد والإقياء والغثيان، وهي أعراض ترافق مرضى سوء التغذية.
وتتابع” رغم غياب الأطباء في المستشفى وصعوبة التشخيص، لكن الكوادر الطبية الموجودة تفعل ما بوسعها لعلاجهم، من خلال تقديم الأدوية المتوفّرة مثل مضادات الإقياء ومحاليل التهاب الأمعاء والأملاح”.
وتصف أم محمود الإجراءات العلاجية المتوفرة بـ “المؤقتة، في ظل افتقاد النازحين وأطفالهم لطعام صحي نظيف ومكمّل وذي تنوع غذائي كاف بثلاث وجبات يوميّاً”.
لا توجد إحصائيات دقيقة للمرضى الذين يعانون من سوء التغذية في الركبان، إلا أن إدارة مستشفى شام الطبي نشرت على صفحتها في فيسبوك أن نحو 1740 حالة مرضية راجعت المستشفى خلال عشرين يوماً، تنوّعت أعراضها بين الإسهالات الحادة والالتهابات التنفسيّة، وهذا الرقم يبدو كبيراً قياساً بالمدة الزمنية، إذ يعادل نحو ربع سكان المخيّم.
الإسهال والغثيان أعراض رافقت طفل السيدة أم خالد، نازحة تعيش في الركبان، لمدة أسبوع، تقول إن “السبب كان تناول الخبز اليابس، طعام النازحين اليوم وسط فقدان الخبز العادي، بحسب تشخيص الممرضين في مشفى شام الطبي”.
تروي أم خالد أنها لجأت لأطعمة يتم فيها الاستغناء عن الخبز، كالأرز والبرغل لإطعام أطفالها، لكنها كما وصفتها”لا تكفي ولا تشبع”، ما اضطرها، أسوة بباقي سكان المخيم، لشراء الخبز اليابس، و إطعامه لأطفالها.
“لبن أو كشك مع خبز يابس، وعفن أحياناً”، طعام دام وجوده خلال الشهرين الماضيين في منزل أم خالد، فالمواد غذائية مفقودة من السوق، وما توفر منها يباع بأضعاف سعرها في مناطق النظام ويفوق قدرة السكان على شرائها، وسط غياب شبه تام للسلل الغذائية والمساعدات،”ما الحل؟” تقول أم خالد، التي لا تخفي حزنها وهي ترى أولادها وقد نقص وزنهم وهزل جسدهم.
يقول المدير الإقليمي لليونيسيف في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خيرت كابالاري منذ أربع سنوات إن”الركبان بظروفه البائسة ليس المكان الملائم لولادة أو نمو طفل، كيف يمكننا البقاء مكتوفي الأيدي عندما يموت الرضع والأطفال الصغار بسبب سوء التغذية”.
ويؤكد من تحدثنا معهم من سكان المخيم أن الظروف البائسة التي تحدث عنها المدير الإقليمي لليونيسيف قد تفاقمت خلال هذه السنوات إلى حد غير مسبوق، إذ أن مواد مثل الطحين والغذاء والدواء وحليب الأطفال واللقاح كانت تدخل في قوافل المساعدات الأممية التي غابت عن المخيم منذ ثلاث سنوات ونصف السنة، دون تبرير أو توضيح من الأمم المتحدة، أما الآن فلا يدخل ما يسكت جوعهم، وبات الخبز اليابس مع قليل من اللبن أو الكشك طعام غالبية سكان المخيم.
سوء التغذية حرم كثير من نساء المخيم من الإرضاع الطبيعي، في الوقت الذي يغيب حليب الأطفال الرضع عن المخيم منذ أربعة أشهر بسبب الحصار الخانق، ما شكل معضلة أمام النساء ودفعهن لاجتراح حلول لإطعام أطفالهن ما يبقيهم على قيد الحياة.
لم تستطع أم قاسم، سيدة أنجبت منذ أيام في الركبان، تناول وجبات مغذّية وغنية بسبب غياب عدد من المواد الغذائية في الحصار وارتفاع ثمن مواد أخرى مثل اللحم الذي وصل إلى 65 ألف للكيلو غرام الواحد، ما حرمها الإرضاع الطبيعي.
تقول أم قاسم “لا تجد النساء المنجبات هنا ما يسد الرمق سوى البرغل المسلوق والأرز واللبن، أما الأطفال فلا حل لإطعامهم سوى منقوع النشاء والكمون، بالإضافة إلى حليب الأبقار بعد خلطه بالماء، كونه لا يصلح لإطعام الأطفال الرضع”.
وتعرّف منظمة الصحة العالمية سوء التغذية على أنه “النقص أو الزيادة أو عدم التوازن في مدخول الطاقة أو المغذّيات لدى الشخص”، وأهم أشكاله “نقص التغذية الذي يؤدي إلى التقزّم(قصر القامة بالنسبة إلى العمر)، والهزال(انخفاض الوزن بالنسبة إلى الطول)، ونقص الوزن(انخفاض الوزن بالنسبة إلى العمر)، ونقص المغذّيات الدقيقة(نقص الفيتامينات والمعادن الهامّة)”.
لم يزد وزن الطفلة شام ذات الخمس سنوات عن 14 كغ منذ أشهر، علماً أن المتوسط الطبيعي لوزن الأنثى في عمرها 18 كيلو غرام، والطول 108 سنتيمتر بحسب مواقع طبية، تقول والدتها إنه لا يوجد طبيب مختص يحدد نوع حالة سوء التغذية لدى ابنتها، تضيف” ما الفائدة، الطبيب سيرشدك إلى الأدوية ويعطيك قائمة من الأطعمة المغذية، وهذه مفقودات بسبب الحصار، أحس أن طفلتي لا تنمو بشكل جيد، فطولها 99 سنتيمتر، ووزنها لم يتغير منذ أشهر”.
في إحاطتها أمام مجلس الأمن قبل عامين، قالت المديرة التنفيذية لليونيسيف هنرييتا فور إن “نصف مليون طفل يعانون من التقزّم في جميع أنحاء سورية”، وهؤلاء لن يتمتّعوا بنمو صحي لأدمغتهم أو بعظام قويّة، إذا تعرّضوا للجوع في السنوات الأولى من حياتهم”، مشيرة إلى أن أهالي مخيم الركبان يعيشون ظروفاً متدهورة تتمثّل بنقص الغذاء والدواء.
إعداد الطعام في الركبان همّ تتحمله النساء يرافقه حرج يومي أمام أطفالهن الذين لا يحصلون على أكثر من وجبة واحداة في هذه المجاعة، تقول أم شام “النظام يسمح بدخول عدد قليل من المواد الغذائية بأسعار عالية، فسعر أي كيلو غرام من الخضار لا يقل عن 6000 ليرة سورية، أما الفاكهة فهي من المنسيات، إذ يعادل سعر كيلو موز (15000 ليرة) أجرة عامل مياومة ليوم واحد في الركبان”.
يشبّه من تحدثنا معهم في المخيم ما يعيشونه بـ “الموت البطيء”، يخبروننا أن اليوم الذي يأتي دائماً ما يكون أسوأ من سابقه، ومقوّمات الحياة تكاد تنعدم، الأمر الذي أجبر عدد من العائلات على مغادرة المخيم إلى مناطق النظام منذ بداية هذا العام، في حين ينتظر من بقي في المخيم “الفرج” وتحرّك من يهمّه الأمر.
“لم يبق أحد إلا وناشدناه لإنهاء واقعنا المزري، الأمم المتحدة، التحالف الدولي، الأردن، الإئتلاف والحكومة المؤقتة، تركيا، والمنظمات الإنسانية” يقول الناشط أبو محمود، إن حملة “أنقذوا مخيم الركبان” لم تحقق النتائج المرجوّة منها، إذ ما يزال تأمين الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والدواء والتعليم والطبابة معضلة في الركبان، ولم يلحظ أي سعي لإنهاء مأساة المخيم سواء بفتح الطريق إلى الأردن وإنهاء الحصار أو بنقل سكانه إلى الشمال السوري.
لم يترك أهالي مخيم الركبان باباً إلا وطرقوه، تعالت نداءات استغاثتهم مع كل مجاعة حدثت، دون أي فائدة ترجى في كل مرّة، ما حصدوه إلى الآن عجز المنظمات الإنسانية وتجاهل الأمم المتحدة وتخاذلها، وتقلّصت طلباتهم إلى ربطة خبز وعلبة حليب وثلاث وجبات يومية مشبعة.