الثورة المحاصرة  في مخيم الركبان

فقد عيد الثورة ألقه في مخيم الركبان المحاصر، لادوّارات أو ساحات تزين اليوم، جدران الطين لا تصلح لرسومات الثورة وأبطالها، معظمها متشققة أو مكسوة بشوادر. لعنة الطين غطت الطرقات، وغابت الأغاني الثورية والهتاف، ليحضر عوضاً عنها صراخ الرضع والأطفال الجوعى بعد أن فقد الحليب والطحين.

في هذا المكان القصي، يحتاج إحياء عيد الثورة لشعور أقل بالخسارة والنسيان والتجاهل، شراكة مصير، وفرح لا يدخل في قاموس واحد مع الحصار، فالنظام هنا يتحكّم بربطة البقدونس التي تدخل إلى الركبان ،كذلك بأقلام الحبر لخط اللافتات ودهان الكتابة على الجدران.

لا يرحم الحصار والصحراء سكان الركبان في ذكرى ثورتهم، تتنامى حالة اليأس والإحباط يوماً بعد يوم، فالطقس العاصف أفرغ بيوتاً من أصحابها، تداعت جدرانها وذابت كالملح وهم ينظرون إليها، ومن بقي سقفه فوق رأسه راح يحسب تكلفة الترميم التي لا بدّ منها إثر كل عاصفة.

يغيب الركبان اليوم عن مشاهد الاحتفال بذكرى الثورة، يحضر بشكل باهت في شراكة المصير، سكانه خرجوا من رحم الثورة، انتصاراً لسورياهم التي أرادوا إخراجها من ملكية آل الأسد، إلى هذه الصحراء القاسية، حوصروا الآن من كل جهة، كل ما يدخلهم هو شحيح وغالٍ، يبقيهم فقط على قيد الحياة.

ما يصل اليوم، من الركبان، صوراً لمزروعات قليلة سحقتها العاصفة المطرية، وأنهت حلم أصحابها بصحن فتوش في رمضان، لبيوت طينية تلف أثاثها وتداعت جدرانها، لأطفال يحلمون بكسرة خبز، رغم أنهم عاشوا هذا الأسبوع في “بحبوحة” وأمل، فالفرن عاد للعمل لثلاث أيام بعد أكثر من سبعين يوماً، لم ينالوا منها سوى الخبز اليابس وسوء التغذية، لكن الفرن توقف مجدّداً رغم أن اليوم عيد الثورة.

لا يحتاج أهل الركبان من يذكرهم بيوم الثورة، حملوا رايتها في العام الفائت وما سبقه، فرحوا لأقرانهم في مناطق سورية عدّة، وحزنوا لمصابهم في مواقع كثيرة، كان آخرها زلزال السادس من شباط، وقتها تمنّوا فتح طريق يوصلهم إلى الشمال السوري ليغيثوا المنكوبين، انتهى الزلزال وعمليات الإغاثة فيما بقي الركبان وحيداً في عزلته.

ما يحتاجه ويريده سكان الركبان اليوم، أن يربت أحدهم على كتف ثائرين ومثقفين وأصحاب قرار وإعلاميين ومنظّمات لأن يلتفتوا إلى مخيمهم، كي لا يبقون خارج حساباتهم ومناصرتهم، ليشعر المحاصرون، أنهم في خندق واحد مع الثائرين والمعارضين في مناطق أخرى.

لا يتلهّف المحاصرون لعيد الثورة بقدر ما يتلهّفون لأمور أخرى، هي إن حدثت كانت فرحاً وثورة تكسر عزلتهم، بعد أن حوصر مخيمهم هناك في زاوية صحراوية عند المثلّث الحدودي السوري الأردني العراقي، وشكّل استعصاء إيجاد حل فيه معضلة أخلاقية وإنسانية للأمم المتحدة وللمنظمات الإنسانية بالدرجة الأولى، ولكل من دخل تحت مظلة الثورة.

ماذا لو أشرقت شمس يوم جديد وحصل فيه الرضّع على الحليب المجفف ووجبات تكميلية تزيح منقوع التمر والبابونج جانباً، ماذا لو دخل الطحين باستمرار وحصل الجائعون على قوتهم اليومي، وحمل الأطفال معهم إلى مدارسهم “عرائس” اللبنة والكشك والزعتر، ماذا لو أحدثت صفوف تعليمية بعد المرحلة الابتدائية وصار في الركبان مناهج معتمدة وشهادات، ماذا لو دخل أطباء مختصون يعالجون المرضى، وجرّاحون بصفة دائمة ينهون رحلات علاج المرضى إلى مناطق النظام، والألم الباقي بعد التداوي بعد منعهم من العودة إلى المخيم وحرمانهم من عائلاتهم، ماذا لو دخلت الحجارة والإسمنت وصار للركبانيين بيوتاً بأساسات متينة، لا تقع فوق رؤوسهم ولا ترهقهم بتكاليف ترميمها، ماذا لو دخلت الأدوية، كيف سيفرح أصحاب الأمراض المزمنة، ماذا لو دخلت الأمصال الخاصة بلدغات العقارب والأفاعي، ولقاحات الأطفال، ماذا لو توفّرت فرص العمل في الركبان، وحصل النازحون على كمية تكفيهم يومياً من المياه النظيفة. هذه المطالب رغم بساطتها، لكنها بقيت لسنوات في شبكة من التجاهل الأممي وعجز المنظّمات، يبدو تحقيقها عيداً لا يقلّ فرحه عن عيد الثورة.

بعيداً عن هذه “الأمنيات”، ماذا لو كسر الحصار وفتح طريق ينقل فيه الركبانيين من مخيمهم إلى الشمال السوري، سيستقبلون بعبارتهم المعروفة “يالله حيهم”، وسيكون لعيد الثورة القادم طعم آخر في الشمال.