عالقون في لبنان.. سقف اللجوء السوري “واطي” والحدود تحاصرنا وتخيفنا

شكّل الزلزال الذي ضرب سورية وتركيا في السادس من شباط الفائت دافعاً لتصاعد الخطاب اللبناني تجاه الوجود السوري، من جهة ضرورة اغتنام الوفد الوزاري الذي زار دمشق الفرصة للتفاهم والتنسيق مع حكومة النظام لإعادة السوريين في أسرع وقت، وذلك ضمن خطة العودة المرفوضة أصلاً من الأمم المتّحدة والمجتمع الدولي، ومن جهة أخرى، التخوف والريبة من دخول مزيد من السوريين إلى لبنان بعد كارثة الزلزال، خاصة أن هناك صلات قرابة بينهم وبين اللاجئين، والأولى هو عودة الشبان السوريين إلى بلدهم والوقوف معه في هذه المحنة بحسب ما جاء في التصاريح الإعلاميّة التي أغفلت الوضع القانوني لهؤلاء اللاجئين.

مرارة اللجوء

يقول سوريون تحدثنا إليهم “أحسسنا أننا عالقون، شعور العجز كان يكوي ضمائرنا من الداخل، في الوقت الذي لم تقدم فيه حكومة النظام ولبنان أي ضمانات لمن أراد المغامرة بجسده في الداخل السوري، وإن وجدت، أي الضمانات، ستكون جسراً يعبرونه إلى رحلة وصفوا نهايتها بـ “الموت أو الاعتقال” واحتمالية عدم العودة إلى لبنان لغياب الثقة بالطرفين، كما أن موظفي المفوضية على استعداد دائم لشطب اسم أي شخص يثبت أن قدميه وطأتا الأرض السورية”، وبذلك سيتجرّد من صفته كلاجئ، ويفقد شرعية إقامته في لبنان”.

تركّزت استجابة السوريين في لبنان على إرسال الحوالات وجمع التبرعات، والتعاون مع المنظمات والجمعيات المحلية لجمع مواد إغاثة مثل: إسفنج، بطانيات، حرامات، ملابس شتويّة، سلل غذائيّة، ومواد تموينية.

حصل حاتم حلاق على بطاقة لجوء في لبنان منذ عشر سنوات، الفترة التي لم ير فيها سورية منذ أن أتى من قرية كنصفرة في جبل الزاوية، يقول حاتم “كانت أياماً غير عاديّة، بينما كنا نفكّر في المساعدة لبلسمة الجراح وسط كل هذه الآلام، كانت تأتينا الاتهامات الشعبوية والإعلاميّة بالتقصير والخذلان، وتطالبنا كلاجئين بالعودة”.

شارك حاتم في حملة تبرّعات نظمها أهالي قريته الموجودين في بلدة الدامور اللبنانيّة، يقول” المفرح أن ترى فرقاً تطوّعيّة خرجت من هنا، لكن المؤلم أن ترى أفراداً لبنانيين وفلسطينيين يدخلون إلى سورية للمشاركة في الإنقاذ والإغاثة، وهؤلاء يستحقون منا كل الثناء والشكر، بينما تجد نفسك محاصراً بين شبح الأجهزة الأمنية السوريّة في حال قررت أن تخطو خطوة إلى الأمام، والفصل من سجلات اللجوء”.

لم يعمل حاتم في الأيام الثلاثة الأولى من الزلزال، قضاها حِداداً وعملاً في تنسيق عمليات الاستجابة بين أبناء بلدته، يقول”في اليوم الرابع توجهت إلى المصنع الذي أعمل داخله، كانت النظرات تأكل وجوهنا نحن السوريين، مع همس تحوّل إلى مطالبات علنية بالعودة، فمكاننا ليس هنا، الأمر الذي أدّى إلى مشادات ومشاحنات لفظيّة”.

في الوقت ذاته هناك من قصد سورية بعد الزلزال، منهم من دخل عبر ممرات التهريب وتحمّل عناء وتكلفة الرحلة وخطورتها، رغم الإجراءات المشددة ليصل إلى أهله، ومنهم من ذهب بطريقة نظامية، لكنه وجد الحدود اللبنانية مغلقة في وجهه عندما عاد.

أم حسن، لاجئة سورية في لبنان منذ ثماني سنوات، قصدت مدينتها حلب للاطمئنان على أقاربها الذين أصيبوا بسبب الزلزال، وللقيام بواجب العزاء تجاه أختها التي فقدت زوجها وابنتها، تقول أم حسن إنها فوجئت بمنع السلطات لها من دخول لبنان مدة خمس سنوات لدى عودتها، رغم أنها تملك إقامة نظامية تجدّدها عن طريق المفوضيّة، الأمر الذي اضطرها للدخول فيما بعد بطريقة غير شرعية، لكن الأسوأ أن المفوضيّة لم تعد تعترف بها كلاجئة وحرمتها من المساعدات التي كانت تعينها.

نحن لاجئون ولسنا قنبلة موقوتة

أعادت حادثة الزلزال الحديث عن “ملف الوجود السوري وتبعاته” إلى دائرة الضوء في الأوساط الرسمية والإعلامية اللبنانيّة، وسط تخوّفات من دخول لاجئين جدد نتيجة الزلزال.

هذا التخوّف انتقل إلى تحذير في تقارير إعلامية تناولت أعداد اللاجئين السوريين، بوصفهم “قنبلة موقوتة ستغير ديموغرافية لبنان، بعد أن زاد عددهم(مليونين و300 ألف نسمة بحسب التقرير) عن نصف عدد اللبنانيين، وسيفوقونهم عددياً بعد سبع سنوات من الآن”، مفسّرة ذلك بـ “اختلافهم عن اللبنانيين من جهة ارتفاع معدل ولاداتهم وانخفاض أرقام وفيّاتهم”، وفي الجانب الرسمي، أعلن الأمن العام اللبناني أن عدد السوريين وصل إلى مليونين و80 ألف نسمة.

تشير أحدث بيانات المفوضية، نهاية العام الفائت، إلى وجود 814,715 لاجئاً مسجلاً في قوائمها، ونحن هنا لسنا بصدد مقارنة الأرقام، رغم المبالغة فيها من الجانب اللبناني، إنما القول أن هناك سوريين يعيشون ويعملون في لبنان، وهم إما من العمالة القديمة أو أصحاب ورش ومصانع ومطاعم أو طلاب وهؤلاء غير مسجلين تحت خانة لاجئ، وبإمكانهم، في أي وقت، الذهاب إلى سورية والعودة إلى لبنان بصورة شرعيّة، بعكس اللاجئ الذي يمتنع عن العودة لأسباب تمسّ حياته بالدرجة الأولى.

يقول أبو مالك، سوري يملك مطعماً في لبنان، إنه توجه في اليوم التالي للزلزال رفقة خسمة من عماله إلى مدينته اللاذقية، للبقاء بجانب عائلاتهم والمساهمة في عمليات الإغاثة، ثم عادوا إلى لبنان قبل أيام بموجب ترخيص يخوله الدخول كونه صاحب مؤسسة سياحية في لبنان.

يعمل أبو مالك في لبنان منذ ثلاثين سنة، لم يسجل نفسه في قوائم اللاجئين لدى المفوضيّة، لكنه يستغرب من عبارة “نازح” التي وضعها موظفوا البلديّة بجانب اسمه في آخر إحصاء أجروه لعدد السوريين.

العودة إلى سورية كانت حلماً لدى اللاجئ عامر، أراد منها تقبيل جبين والدته وأن يودعها كما يليق بابن لن يرى وجه والدته ثانية بعد أن غيّبها الزلزال، قرر عامر السفر إلى مدينته حماه عبر ممرات التهريب، رغم خطورة الرحلة، لكن صوت والده كان يختنق وهو يرجوه عبر الهاتف ألا يأتي “خسرنا أمك ما بدنا نخسرك كمان”.

قبل أيام من الزلزال، حمل عامر خبراً مفرحاً لأمّه، أن المفوضيّة أدرجت ملفه وعائلته ضمن إعادة التوطين في دولة بلجيكا، يخبرنا “ضحكت مع والدتي كثيراً عبر الواتس أب وهي تتلعثم في لفظ الدولة التي ستقبلني لاجئاً، دعت لي بالتوفيق والرزق، وأخبرتني أن كل المطارح خارج حدود البلد هي غربة، الآن أحسّ كم نحن غرباء وكم قبرها بعيد”.

نازح خارج الحدود

تندرج تسمية “نازح” على كل سوري مقيم في لبنان، سواء كان لاجئاً أم لا، تعود تلك التسمية لرفض لبنان مراراً وتكراراً أن يكون بلد لجوء نهائي، وأي شكل من أشكال التوطين كما يصرّح مسؤولوه باستمرار، كما أنه خارج قائمة الدول التي وقعت على اتفاقيّة اللاجئين عام 1951.

وبموجب مذكرة التفاهم الموقعة بين الأمن العام اللبناني والمفوضيّة عام 2003، يبدو لبنان أقرب لأن يكون ممر عبور إلى بلد لجوء ثالث تتكفل المفوضيّة بتأمينه للاجئ، وهو ما يجري لكن بتلكّؤ أممي، وحثّ لبنان، في الوقت ذاته، على القبول بالوجود السوري والتكيّف معه، وهو ما يعتبره اللبنانيون دعوة صريحة للاندماج والتوطين، يقابلوها بالرفض في كل مرّة، الأمر الذي يدفع اللاجئين السوريين لليأس والإحباط من طول الانتظار، وسط نفاد الصبر اللبناني من وجودهم ومقاسمتهم بلادهم.

وتشير بيانات المفوضيّة إلى أنها أعادت توطين 110,115 لاجئ سوري منذ العام 2011 إلى الآن.

الأرقام الواردة أعلاه تعكس تباطؤاً شديداً في إعادة التوطين، لا سيما في السنوات الخمس الأخيرة، وبذلك ستحتاج المفوضيّة إلى ثمانين سنة، في الحد الأدنى، لتخرج اللاجئين من لبنان في حال بقيت على هذا النحو، الأمر الذي سبب تذمراً واضحاً على المستوى الشعبي والرسمي اللبناني يتحمّل تبعاته السوريون عند كل حدث مثل الزلزال.

لا يحتاج اللاجئون في لبنان إلى من يخبرهم أن زلزالاً ضرب بلدهم كي يعودوا، كما لا يحتاج وزير الشؤون الاجتماعية هيكتور حجار إلى حديث جانبي مع رئيس النظام السوري حول إعادة من أسماهم “النازحين”، ليجيبه الأخير بـ “علينا إكمال الحوار بشكل جدّي”. لعلّ الأجدى هو تكثيف الحوار والضغط على الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لإعادة توطينهم في بلد ثالث، وهو ما يتصدر قائمة مطالبهم أثناء احتجاجهم أمام مباني المفوضيّة، عوضاً عن الضغط عليهم ومطالبتهم عند كل مفصل أو حدث بالمغادرة، وتحميلهم مسؤولية ما يجري في لبنان من انهيار اقتصادي، والدعوة لحرمانهم من المساعدات التي يتلقونها، والتي لا ترقى لنصف إيجار المنزل في أحسن الأحوال. يخبرنا أحد اللاجئين أن حدود بلده تحاصره من الشرق والشمال، فيما حدود فلسطين المحتلة من الجنوب، والمفوضيّة شطبت اسمه من قائمة المساعدات نهاية العام الفائت، كما لم تدرجه إلى الآن ضمن خطة إعادة التوطين، لذا قرر أن يركب البحر في رحلة غير شرعية مطلع الصيف المقبل، عله يجد حياة كريمة رغم خطورة هكذا رحلات، كي لا يبقى عالقاً ومحاصراً في لبنان.