لكل منا حصاره 

تصل صورة طبق رمضان على غرفة واتس آب عائلتي كل يوم، على المائدة أصناف تختلف فيما بينها وتتنوع، يجمعها خيط واحد “الحصار”.

يضيق مفهوم الحصار في إدلب، حيث شخصين من عائلتي محاصرين ضمن مخيم، ويبدأ مفهوم الحصار من البقعة الجغرافية التي تحرمهم من التنقل إلى خارجها، يحكم مزاج رجال المعابر فيها المواد القادمة منشؤها أنواعها وأسعارها.. وعند تفتيش ما تبقى في جيوبهم تجد العملة التركية تحاصر مفهوم المقارنة الرمضانية.

يعمل العقل في غرفتنا للواتس آب كآلة حاسبة، تقرّش التكلفة بخمس عملات، الليرة التركية والسورية والدولار واليورو والليرة اللبنانية.

تحاصر هذه العملات شراكة الظروف التي نعيشها كعائلة، حالنا كحال معظم العائلات السورية، موزعين في مناطق مختلفة، بحدود وعملات وثقافة.

في إدلب يحاصر سعر المعروك وكيس السوس أو التمر الهندي عائلات بأكملها، تمرّ من أمام ما ألفوه في رمضانات سابقة دون الجرأة على النظر إلى الأسعار، ثم مسرعين يتركون المكان إلى ذاكرة قريبة كان الحصول عليها أكثر يسراً وسهولة.

في حصار إدلب، يغدو منتج حلبي أو دمشقي أو من دير الزور رفاهية، بينما تحاصرنا البضائع التركية من كل حدب وصوب. “دبس بندورة -فليفلة -أرز وبرغل -زيت قلي..” مواد كثيرة بتنا نعرف ماركتها التركية وولاية تصنيعها ونسينا في الوقت ذاته طعم ما عشنا عليه سابقاً وكان يشكل إلى فترة قريبة ذاكرة الطعم في حياتنا.

“محلون”، تصف أختي طعم “دبس البندورة” في طبق البامية الذي أعدته، وتذكّر أمي بطعم قديم لدبس البندورة المجفف على الشمس.

تفاصيل صغيرة يومية تعيدنا إلى الحصار، حيث أختي في مناطق النظام، هناك أيضاً كل شيء تبدّل، وإن بدرجة أقل أو أكثر، بحسب ارتباط كل منها بالذاكرة.

بضائع تركية أيضاً في الأسواق هناك، بدرجة أكبر بضائع إيرانية، ومظاهر رمضانية إيرانية أيضاً تحتل قسماً من المكان، الغلاء كما في إدلب، وبدرجة أكبر، يحاصر الجميع، اللحم بأنواعه الأحمر والأبيض يغيب عن موائد القسم الأكبر من العائلات، وأساسيات رمضان من عصائر وحلويات تظهر فقط في دعايات بين المسلسلات لموائد رمضانية عامرة في الإعلانات، هذا إن توفرت الكهرباء لمتابعتها.

“أقلّ طبخة بخمسين ألف”، ترسل أختي زفرة على غرفتنا للواتس آب، يبدو الرقم هائلاً علينا بالليرة السورية، خاصة وأن آخر عهدنا، نحن الذين غادرنا سوريا من العائلة، كان منذ سبع سنوات.. حينها كان لهذا الرقم قيمة.

في الحصار تبدو الأصفار بلا قيمة.. ماذا يعني أن يكون متوسط حياة عائلة مكونة من خمسة أشخاص يحتاج لرقم بستة أصفار على الأقل للكفاف، وبسبعة إن كنت في رمضان.

في لبنان، ومع انهيار العملة المتسارع، دفع أمي (تعيش منذ تسعة أشهر فقط في لبنان) ترمي رقماً كمليون ليرة ثمناً لكعكة، ومثله لكيلو من اللحم وضعفه لطبق من المقالي وصحن من الشوربة والسلطة على مائدة العشاء.

“عاللبناني”، يعني “شقد عالتركي”، لأ “عالدولار” معادلة يومية تنتهي بسؤالي أنا الذي أشاهد ما يحدث بغبطة، و “عندكم”.

عندنا لا مظاهر رمضانية في حصارنا، لا بسطات بيع لمعروك أو سوس، لا باعة تملأ الطرقات، لا سكبة رمضان نتبادلها في المكان، ولا مدفع إفطار يخبرنا ببدء الطعام.

يتوفر على مائدتنا أطباق مختلفة، لا أشاركها في غرفتنا للواتس آب، الصورة قاتمة هنا تفتقد لمن يأكل.. تفتقد لـ “اللّمة”، أليس اجتماعنا معاً كسر لآلية الحصار الموجعة التي نعيشها.

لكل منا حصاره.. يجمعنا ويفرقنا في آن معاً، حين تغدو غرفة واتس آب ما يلمنا عوضاً عن فطور أمي، هناك حيث تجلس بجانبها أباريق الماء والعصائر، وفي الوسط طبق “الكبة النية” الذي عجنته بيدها، وترك خاتمها علامة مسجلة على قرص، وفي الوسط أيّاً يكن من وجبة عملت على إنجازها كل نساء العائلة، أما توابلها فالكثير من الحديث والحب والذاكرة.