نتيجة ظروف الحصار والأوضاع الخاصة التي يعاني منها مخيم الركبان الواقع على الحدود السورية-الأردنية، تعتمد العوائل المقيمة في المخيم على “ببور الكاز” لقضاء حوائج المطبخ والمنزل، ما يتسبب بمشكلات صحية ومتاعب أخرى.
تستخدم نساء الركبان “ببور الكاز” للطهي والتسخين والتدفئة أحياناً، الى جانب مدافئ الحطب، لكن صعوبة عملية تشغيله، والرائحة الصادرة عنه تسبب معاناة تضاف لمشكلة أسعار المحروقات غير المستقرة وأعطاله الدائمة.
إن أهم سبب في اللجوء إلى استخدام هذا النوع من الطباخات في المخيم كان عدم توفر مادة الغاز خلال الفترة الأولى من افتتاحه، ورغم أن المادة وجدت طريقها إلى الركبان، لكن بكميات محدودة جداً، فهي وإن توفرت حالياً إلا أن أسعارها لا تتناسب مع دخل جميع النازحين، حيث وصل سعر الأسطوانة إلى 400 ألف ليرة.
أم أحمد، سيدة مقيمة في مخيم الركبان منذ عام ٢٠١٧، تكشف أن الببور وصل مع عائلتها بسبب علمهم المسبق أنه الأداة المستخدمة هنا، ولذلك كان أول شيء اشتريناه قبل وصولنا.
وتقول: في ذلك العام كان سعر لتر المازوت ١٧٥ ليرة سورية، بينما الآن يبلغ مابين ثماني الى عشر آلاف ليرة، وسعر الغاز لا يتناسب مع ظروف أسرتي المادية نهائياً، فزوجي عاطل عن العمل، وابني يعمل بالمياومة وما يجنيه بالكاد يكفي لشراء الطعام والحاجات الأساسية الأخرى.
وتضيف أم أحمد: سعر اسطوانة الغاز تجاوز الـ ٣٥ الف ليرة سورية، لذلك نرى أن تخصيص هذا المبلغ لشراء الطحين والرز والسكر أهم بالنظر إلى دخلنا المادي، وطالما توفر المازوت فنحن بوضع مقبول.
لكن مقابل هذا التوفير النسبي والاضطراري على أي حال، فإن الببور والمازوت المستخدم لتشغيله لهما قصص كثيرة مع نازحي المخيم، لكنها بالمجمل قصص وشواهد تعيسة تنعكس أضراراً صحية ومتاعب وصعوبات لا تنتهي على كل الأصعدة.
تبدأ المعاناة مع هذا النوع القديم من الطباخات لحظة تشغيله، حيث يطلق روائح كثيفة وخانقة نتيجة طبيعة الاشتعال البدائية ونوعية النفط المستخدم التي تزيد من الطين بلة على هذا الصعيد.
تتضاعف المشكلة حين يكون المسكن عبارة عن خيمة يقيم فيها جميع أفراد العائلة ويتم استخدامها كمطبخ وحمام وغرفة نوم وغرفة جلوس.. وبالتالي فإن تشغيل البابور يتسبب بمضايقة الجميع حتى الأصحاء منهم، فكيف إذا كان بين أفراد العائلة مرضى، وخاصة إذا كان هناك مريض في الجهاز التنفسي ؟!
أبو محمد نازح في المخيم وأب لثلاثة أطفال، يعتبر مع عائلته مثالاً لهذه الحالة، حيث يقيم في خيمة مساحتها ١٦ متراً مربعاً.
يقول أبو محمد: كل حاجياتنا موجودة في هذه الخيمة، فلا بيت مونة وقبو ولا علية، حتى الاستحمام والطبخ يكون بجانبنا وعلى مقربة من الجميع.
ويضيف: عندما تقوم أم محمد بتشغيل الببور للطبخ أو الخبز وتملأ رائحته المكان أقوم بإخراج ابني محمد، البالغ من العمر ٥ سنوات، من الخيمة كي لا يشتم رائحة المازوت لأنه مصاب بالربو، خشية أن تزداد حالته سوء.
وبسبب مرض ابنه فإنه وأثناء العواصف الغبارية التي كثيراً ما تضرب المخيم، تتجنب أسرة أبو محمد تشغيل البابور.
في البيت الطيني الأمور أفضل بالطبع عندما يتعلق الأمر باستخدام الببور، فغالباً المطبخ منفصل، والرائحة المزعجة والأصوات لا تصل للجميع، لكن السيدات اللواتي يقمن بالطبخ وتدبير شؤون المنزل هن من يتأثر، والعديد منهن بدأن بالشكوى من آلام وحساسية الصدر.
مشاكل استخدام البابور لا تتوقف عند الأضرار الصحية، بل تتجاوزها إلى تفاصيل أخرى قد تبدو غير مهمة لكنها مؤثرة في الواقع وتزيد من معاناة سكان مخيم اليرموك المضاعفة أصلاً.
يسبب دخان الببور تغيير لون الجدران واتساخها بشكل أسرع، ما يضطر السيدات إلى تنظيف هذه الجدران والأسقف بشكل أسبوعي على أبعد تقدير باستخدام أدوات بدائية.
وضع الأواني المستخدمة للطبخ على “ببور الكاز”، يغير لونها الى الأسود من الخارج، وهذا يزيد من معاناة السيدات في تنظيف الأواني وزيادة في مصروف مستلزمات ومواد التنظيف.
تخبرنا سعاد أن عملية تنظيف الأواني تمر بعدة مراحل لتعود نظيفة من (الشحوار) صعب الإزالة، فهي تبدأ بإزالة الطبقة العليا منه بقطعة قماش، ثم تستخدم الإسفنجة الخاصة بالجلي للتخلص من الطبقات الأخرى.
بعض السيدات تقوم بفرك الأواني بالتراب أولاً ثم استكمال العملية بأدوات التنظيف بهدف التخفيف من مصروف الماء والمنظفات، لكن هذا مرهق ومتعب جداً.
أم سمير تقول: اتعبني جداً تنظيف الأواني بشكل يومي من السواد الذي يسببه الببور، ولذلك فأنا الآن اكتفي بغسلها من الداخل فقط ولم أعد أنظفها من الخارج.
معاناة السيدات في مخيم الركبان مع “ببور الكاز” هي أكبر إذن من معاناة الرجال، لكن الأمر بالنسبة للنساء المسنات مضاعف، وهذه الفئة لها قصص خاصة مع الببور.
أم عبد الكريم، امرأة تجاوزت الستين من العمر، تعيش وحيدة مع ابنها الذي يخرج منذ الصباح الباكر للعمل، تقول إن هناك أكثر من مشكلة يسببها لها تشغيل هذه الأداة.
وتضيف: بجانب الرائحة التي تضايقني، فأنا لا أستطيع رؤية الثقب الذي يخرج منه المازوت لأقوم بنكشه وتنظيفه، فأقوم بطلب المساعدة من الجارات الأصغر سناً، أو أنتظر عودة ابني من العمل.
التعامل مع البابور ليس بالأمر السهل ويحتاج إلى خبرة تتطلب وقتاً ومعاناة قبل اكتسابها، لكن هذا لا يكون بدون ثمن في الواقع.
الكثير إن لم نقل الغالبية الساحقة من النساء حالياً لا يعرفن كيفية استخدام ببور الكاز، لذلك ليس من المستغرب وقوع حوادث متفاوتة، بل ومشكلات عائلية أحياناً تكون طريفة وأحياناً مزعجة.
السيدة إيمان التي لم يسبق لها قبل النزوح العمل على الببور هي واحدة من اللواتي واجهن هذا النوع من المشاكل.
تقول بهذا الخصوص: لم أعرف بابور الكاز سوى عندما كنت صغيرة ورأيتها في منزل جدتي التي كانت تضعه في غرفة المونة، وأنا لا أحب استخدامه إلى هذه اللحظة، لكني مجبرة لأنه سبب لي مشاكل مع زوجي كان عندما يعود إلى البيت من العمل ويتفاجأ أنني لم أستطع تشغيله وتجهيز الطعام ما يؤدي لشجار بيننا.
إضافة إلى ما سبق فإن الأعطال الكثيرة التي ترافق استخدام “ببور الكاز” تسبب إرهاقاً نفسياً ومادياً في بيئة يغلب عليها الضغوط الكبيرة والفقر، بالإضافة إلى ندرة المختصين بإصلاح هذا النوع من الأدوات، وانعدام قطع التبديل.
واقع فرض تعلم بعض السيدات إصلاح البوابير، لكن ليس بشكل احترافي وناجع.
أبو جميل، وهو شخص يقوم بتصليح البوابير في مخيم الركبان يقول إن كثر أعطال الببور (البلف والرأس)، وأحيانا يكون خزان المازوت منفصل عن باقي الببور، وهذه مشكلات بعضها سهل وبعضها معقد.
وإلى جانب الأعطال المتكررة فإن إصلاحها مكلف إلى حد ما، فسعر البلف والفالة ألفي ليرة، وسعر الرأس٣٥ ألف ليرة، أما مدقة الببور فيبلغ ثمنها ٥ آلاف ليرة، والجلدة ألف ليرة، يضاف إليها أجرة التصليح، بينما يصل ثمن الببور إلى مئة وخمسين ألف ليرة سورية.
هذا هو واقع حال الغالبية العظمى من المقيمين في مخيم الركبان الذين بات ببور الكاز جزء أساسي من حياتهم بعد أن ظن الجميع أنه أصبح من الماضي ولا يمكن أن يعود، لكنه عاد ليفرض نفسه مع أعطاله ومشكلات تشغيله وتكاليف استخدامه والصعوبات التي تنجم عنه أو الامراض والمشكلات التي يسببها.