تعلّقت أنظار المحاصرين وقلوبهم في مخيم الركبان بمصير إخوانهم المنكوبين في عدة مناطق من سورية جراء الزلزال الذي ضرب سورية وتركيا في السادس من شباط الفائت، تمنّى كثر تسهيل فتح طريق يوصلهم إلى الشمال السوري، الوجهة المرغوبة لكثر في المخيم “المنسي” بعد أن ساءت أوضاعهم، علهم يستطيعون المساعدة في إنقاذ من علقوا تحت الأنقاض، وفقاً لمفهوم الاستجابة الإنسانية التي غابت عن مخيمهم لسنوات، وسط عدم دهشتهم من التقاعس الأممي وتأخر وصول المساعدات حتى اليوم الرابع ومن معبر واحد، رغم كل الخطابات والمناشدات الإنسانية التي أطلقها أهالٍ في الشمال السوري وناشطين وإعلاميين ووسائل إعلاميّة.
تحوّل مخيم الركبان الذي يمتد على طول سبع كيلو مترات عند المثلث الحدودي السوري الأردني العراقي، من نقطة عبور لآلاف الهاربين من الحرب السورية إلى تجمّع ثم مخيم داخل منطقة الـ 55 كم التي تسيطر عليها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وانخفض عدد سكانه نتيجة ظروف الحياة القاسية التي عمقها الحصار وغياب فرص العمل من مائة ألف إلى سبعة آلاف نازح.
“الأمم المتّحدة لم تقدّم أي شيء”، هذا ما قاله مدير الدفاع المدني السوري(الخوذ البيضاء) في شمالي سورية في خامس أيام الكارثة، حين أعلن انتهاء مرحلة البحث عن ناجين وإنقاذهم والانتقال إلى مرحلة البحث والانتشال، وفي اليوم الثامن عقد مجلس الأمن جلسة مغلقة، الهدف منها فتح مزيد من المعابر الحدودية لإيصال المساعدات إلى شمالي غرب سورية، دون أن يأتي أحد على ذكر مخيم الركبان الذي لا تقدم له الأمم المتحدة أي مساعدات منذ نحو ثلاث سنوات ونصف السنة.
مظلّة التجاهل الأممي بمعناه السوري العام لطالما غطّت مخيم الركبان الذي يسميه أهله بـ”المنسي” لسنوات قضوها عالقين بين العودة إلى مناطق النظام الذي هجرهم، أو الاستسلام للبقاء محاصرين، لا يدخل إليهم ما يبقيهم أحياء إلا حسب مزاج حواجز النظام وبأسعار باهظة، مقابل ندرة في المساعدات الشحيحة التي ترسلها منظمات إنسانية في فترات متباعدة، وغياب تام لمساعدات الأمم المتحدة ومن في كنفها من منظمات ومؤسسات.
غياب الاستجابة الإنسانية أدى لواقع يصفه سكان المخيم بـ”المزري”، يقول أبو يوسف، وهو نازح في المخيم، إن منزله كان من بين نحو خمسين منزلاً تضرر بشكل كامل بسبب العواصف المطرية هذا الشتاء، يخبرنا أنه لولا مبادرة سكان المخيم بمساعدته رغم فقرهم ومساعدة أقربائه الذين يعيشون خارج المخيم بإرسالهم حوالات ماليّة، لما استطاع بناء بيته الطيني من جديد، في حين تحملت نحو مئتي عائلة تكلفة ترميم بيوتها بمدل مائتي دولار لكل عملية ترميم.
بزلزال أو بغيره من الكوارث الأخرى لا تستجيب الأمم المتحدة للنداءات الإنسانية في مخيم الركبان، حيث تحوّل توصيف التقاعس الأممي الذي تكشّف بشكل واضح في الزلزال لدى السوريين، إلى معان أخرى، كالتواطؤ، ناتجة من الصمت الأممي عن حصار النظام وعدم تحرّكها لإيجاد حل جذري ينهي مأساة المخيّم، ودعمها ودعوتها للعودة “غير الآمنة” بحسب من تحدّثنا معهم إلى مناطق النظام.
هذا التوصيف جاء نتيجة سياسية التعامي التي تتبعها الأمم المتحدة ومنظماتها تجاه نازحي مخيم الركبان، إذ لم تفض نداءات الاستغاثة في المجاعة التي تفتك بالسكان إلى حد تناولهم الخبز اليابس والعفن، نتيجة منع قوات النظام وصول الطحين إلى المخيّم، إلى أي تحرك أممي.
تخبرنا سيدة في المخيم إن ما تنقله وسائل الإعلام هو جزء من معاناتهم وليس كلّها، إذ لا يستطيع أحد أن ينقل، شعورها وهي تطعم أطفالها الخبز اليابس والعفن، الهلع الذي يصاحب الأمهات وهن يبحثن عن قطعة قماش مبللة بالماء ليضعنها على فم أطفالهن ليتمكنوا التنفس، الخوف من تهدم المنزل وتشقق جدرانه مع كل عاصفة غبارية أو مطريّة،، آلام الفقد التي يعيشها أولئك المجبورين على الذهاب إلى مناطق النظام للعلاج أو لإجراء عملية قيصريّة في رحلة لا عودة فيها، يتنامى ذلك الألم مع كل مكالمة هاتفيّة.
تقول السيدة إن كميات الخبز اليابس(إحدى المواد العلفية في المخيم)أوشكت على النفاد، الأرز واالبرغل، كأطعمة لا تحتاج إلى الخبز وصل سعر الكيلو لكل منهما إلى أكثر من نصف أجرة عامل مياومة، وسط ضجر الصغار من تكرر هذه الوجبات وعدم شعورهم بالشبع، أما حليب الأطفال والوجبات التكميلية للرضع فهي مفقودة منذ أشهر، وهذه ليست المرة الأولى، تستعيض النساء عنها بمنقوع الأرز والنشاء والتمر لإطعام صغارهن الذين يعانون سوء التغذية في الأشهر الأولى من عمرهم.
أطبقت قوات النظام السوري بمساندة الحليف الروسي حصارها على المخيم في تشرين الأول/أكتوبر 2018، وفي بداية تشرين الثاني من العام ذاته دخلت أول قافلة مساعدات أممية بعد الحصار، رافقها فريق من الأمم المتحدة والهلال الأحمر السوري إلى المخيّم، بعدها بأسابيع كان ملف الركبان على طاولة مجلس الأمن، وذكر منسق الأمم المتحدة لشؤون الإغاثة مارك لوكوك في إحاطته أمام المجلس أن”الزملاء عادوا مصدومين مما رأوه، وأبلغوا عن قضايا جسيمة تتعلق بالحماية وازدياد انعدام الأمن الغذائي وعدم وجود أطباء بين السكان الذين تقطعت بهم السبل”.
وسط غياب أي حل سريع ودائم، كان الاتهام بعرقلة وصول المساعدات متبادلاً بين روسيا من النظام من جهة وأميركا من جهة أخرى، إضافة إلى اتهام الأخيرة أنها تقوم مع فصائل المعارضة بعرقلة لعمليات العودة “الطوعية” من الركبان إلى مناطق النظام الذي فتح مع حليفه الروسي معابر قال إنها “إنسانية”.
توفي نحو ثمانية أطفال بسبب البرد الشديد ونقص الرعاية الطبية، وأصبحت الأوضاع “يائسة ومسألة حياة أو موت” بحسب مسؤولي الأمم المتّحدة. استغرق طلب الحصول على إدخال قافلة ثانية نحو ثلاثة أشهر بحسب مروة عوض المتحدثة باسم برنامج الأغذية العالمي في سورية والتي دخلت المخيم برفقة القافلة في السادس من شباط 2019.
الأمم المتّحدة قالت إنها أكبر قافلة مساعدات تصل إلى الركبان، من جهتها قالت مروة عوض إن المساعدات المقدمة تكفي المخيم لشهر فقط، معتبرة إياها “حل مسكّن أو مؤقت”، مشيرة إلى “ضرورة وجود توافق على حل نهائي لأزمة النازحين، بالإضافة إلى السماح للوكالات الإنسانية بدخول المخيم ومساعدة سكانه”.
بعد أكثر من سبعة أشهر، تحديداً في أيلول/ سبتمبر 2019 أرسلت الأمم المتحدة قافلة مساعدات على عدة دفعات، وأشار المتحدث باسم الأممم المتحدة ستيفان دوجاريك إلى “ضرورة دعم الذين يرغبون في المغادرة”، وجدّد دعوته المنظمة الأممية إلى مواصلة الوصول إلى المحتاجين في المخيّم، إلا أنها كانت المرة الاخيرة.
في كل المرات التي وصلت فيها الأمم المتحدة إلى المخيم، كانت بحاجة لإذن من حكومة النظام السوري الذي دأب على تقييد وصول المساعدات بشدة لعدة مناطق سورية لمعاقبة سكانها المعارضين، ورفضها دون أي رد، وأدى استجابة المنظمات الإنسانية لمطالب النظام إلى ثغرات وقصور في الاستجابة وتهديد قدرتها على خدمة السكان، بحسب تقرير نشرته منظمة هيومن رايتس ووتش بعنوان”نظام مغشوش.. سياسات الحكومة السورية لاستغلال المساعدات الإنسانية وتمويل إعادة الإعمار”.
في الوقت ذاته لم تقدم الأمم المتحدة أي تبريرات لعدم مساعدتها للمخيم، ولم تكشف سبب هذه القطيعة التي امتدت قرابة ثلاث سنوات ونصف السنة، على الأقل لم تحمل النظام أي مسؤوليّة، واكتفى المتحدث باسمها ستيفان دوجاريك، خلال رده على أسئلة أحد الصحفيين حول تقرير هيومن رايتس ووتش، بالحديث عن الاستقلال والحياد بتقديم المساعدة للمحتاجين دون النظر إلى أي جهة ينتمون، داعياًالنظام السوري إلى الالتزام بالقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.
بعد أيلول/ سبتمبر غاب ذكر مخيم الركبان عن معرفات الأمم المتحدة ومنظمة الهلال الأحمر السوري، باستثناء المساعدات العينية والطبية وجلسات التوعية التي كانت تقدّم للذين عادوا من الركبان إلى مناطق النظام، دون أن تكترث كبرى منظمات العالم لآلاف النازحين الذين يعيشون ظروفاً لا تحتمل، حسب تصريحات مسؤوليها الذين دخلوا الركبان.
لا يحتاج الأمر إلى زلزال أو كارثة ليطالب أهالي الركبان بأمور بديهية، هي من أبسط حقوق الإنسان كالخبز والتعليم والطبابة، وإن كان المزاج العام السوري اليوم يغلب عليه الغضب من الأمم المتّحدة وانتقادها، واستهجان تباطئها واستهتارها بأرواح السوريين، إلا أنه “لا فائدة ترجى” برأي من تحدّثنا معهم، إذ يرون أن الأمم المتحدة باتت تميل لتفكيك المخيم وتدعم عودة سكانه إلى مناطق النظام، متجاهلة إنقاذ أزيد من سبعة آلاف نازح أنهكهم الحصار